ثلاثية القوة الاقتصادية في المغرب: الصفريوي وبنجلون وأخنوش يرسمون ملامح خاصة : كيف يصنع النفوذ خارطة المال والأعمال؟

يتبوأ المغرب موقعاً متزايد الأهمية على خريطة المال والأعمال في القارة الأفريقية، مدعوماً بثلاث شخصيات اقتصادية نافذة استطاعت أن تحجز لنفسها مقاعد متقدمة في تصنيف مجلة “فوربس” لعام 2025. هذه الأسماء الثلاثة، أنس الصفريوي، عثمان بنجلون، وعزيز أخنوش، تمثل نماذج مختلفة من النجاح الاقتصادي، لكنها تتلاقى في قدرتها الفائقة على تكوين الثروات الضخمة، وتأمين نفوذ واسع النطاق، وتوسيع دوائر تأثيرها داخل السوق الوطنية وخارجها. يأتي هذا التميز المغربي في لحظة حاسمة تشهد فيها إفريقيا إعادة تشكيل معادلات القوة الاقتصادية، وظهور أقطاب جديدة تعيد رسم ملامح المشهد المالي في القارة.
على الرغم من اختلاف المسارات التي سلكها هؤلاء الرجال الثلاثة نحو القمة الاقتصادية – من التأسيس لإمبراطوريات عقارية راسخة (الصفريوي)، إلى هندسة مؤسسات مالية عابرة للحدود (بنجلون)، وصولاً إلى المزج المعقد بين سلطة المال والنفوذ السياسي (أخنوش) – فإنهم يشتركون في امتلاك عنصرين أساسيين للنجاح المستدام: الرؤية طويلة الأمد التي مكنتهم من التوسع والنمو عبر الزمن، والقدرة الفائقة على توظيف المؤسسات لترسيخ مواقعهم في مفاصل الاقتصاد الوطني. ففي سياق يشهد فيه المغرب تحولات اقتصادية وسياسية دقيقة، يبرز هؤلاء الفاعلون كرموز لنوع من الثروة التي تستمد قوتها من السوق، ولكنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات وثيقة ومتشابكة مع الدولة ومؤسساتها.
أرقام “فوربس” تكشف الدينامية الرأسمالية وعمق الروابط بين المال والسلطة:
صنّفت مجلة “فوربس” كلاً من أنس الصفريوي وعثمان بنجلون بثروة تقدر بنحو 1.6 مليار دولار لكل منهما، مما يضعهما في مراتب متقدمة على الصعيدين العالمي والقاري. بينما حلّ عزيز أخنوش في المركز الثالث بثروة تناهز 1.5 مليار دولار. هذه الأرقام، التي تعكس حيوية وقوة الرأسمالية المغربية، تسلط الضوء أيضاً على عمق العلاقة القائمة بين الثروة ومراكز صنع القرار في المغرب. يتجلى هذا الأمر بشكل خاص في حالة رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، الذي لا تزال مجموعته الاقتصادية العملاقة “أكوا” تحتكر قطاعات استراتيجية وحيوية للاقتصاد الوطني، مثل المحروقات والغاز والتوزيع، مما يثير انتقادات متكررة بشأن غياب تشريع فعال وواضح ينظم حالات تضارب المصالح داخل المؤسسات الحكومية.
أنس الصفريوي: عودة قوية من قلب الأزمات وتوسّع أفريقي:
بعد غياب ملحوظ عن قائمة “فوربس” منذ عام 2017، يعود أنس الصفريوي بقوة إلى نادي المليارديرات بثروة تقدر بنحو 1.6 مليار دولار، محتلاً بذلك مرتبة متقدمة عالمياً وقارياً. هذه العودة القوية تعكس التعافي الملحوظ لمجموعته العقارية “الضحى”، مدفوعة بتحسن أداء أسهمها في بورصة الدار البيضاء وتوسعها الاستراتيجي والنشط في أسواق غرب إفريقيا الواعدة.
ينحدر هذا الرجل العصامي من أحياء شعبية في فاس، وبدأ مسيرته المهنية من تجارة بسيطة، ليتحول بفضل رؤيته الطموحة وقدرته على اقتناص الفرص إلى قطب عقاري بارز. لقد استفاد الصفريوي بذكاء من برامج السكن الاقتصادي التي أطلقتها الدولة في العقود الأخيرة، واستطاعت مجموعته “الضحى” أن تستحوذ لسنوات طويلة على حصة كبيرة من سوق العقار المتوسط والمنخفض التكلفة، معتمدة في ذلك على شراكات استراتيجية مع القطاع العام وامتيازات عقارية مهمة، مما خلق له نفوذاً اقتصادياً متشابكاً بين القطاع الخاص والدعم الرسمي.
إدراكاً منه لمحدودية السوق المحلي وتقلباته، اتجه الصفريوي نحو تنويع أنشطته الاقتصادية من خلال تأسيس شركة رائدة في قطاع الإسمنت (“إسمنت الأطلس” CIMAT)، وهو ما شكل نقطة تحول حاسمة في استراتيجيته. و كذلك سيطرته على مناجم “الغاسول”،و تشييد إقامات سكنية موجهة للطبقات الثرية و خاصة على سواحل مدن الممكلة،و دخول نجله في عالم الأدوية بعد مصاهرته مع الملياردي الثالث عزيز أخنوش من خلال نجلته، هذا التنويع مكنه من التموضع بقوة في قطاع البنية التحتية الحيوي والتحكم في مدخل أساسي لعملية البناء، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تخفيف الآثار السلبية لفترات الركود العقاري المتكررة ومهد لعودته القوية إلى قائمة الأثرياء.
عثمان بنجلون: استمرارية راسخة ونفوذ مالي عابر للقارات:
يمثل عثمان بنجلون نموذجاً فريداً للاستمرارية والرسوخ في تصنيف “فوربس”، حيث يحافظ على موقعه ضمن طليعة المليارديرات الأفارقة بثروة تقارب 1.6 مليار دولار. هذه المكانة المتميزة تؤكد دوره المحوري كمؤسس لـ”بنك إفريقيا”، واحدة من أوسع الشبكات البنكية على مستوى القارة الأفريقية، والتي تتميز بانتشارها الواسع واستراتيجيتها المتحفظة.
يبدو أن بنجلون يعتمد في بناء إمبراطوريته المالية على رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تتجنب المضاربات قصيرة الأجل والبحث عن الأرباح السريعة. لقد ارتكزت استراتيجيته على بناء بنية مالية متينة وهادئة، قوامها التمويل البنكي طويل الأمد وحضور قوي في قطاعات استراتيجية أخرى مثل التأمينات والاتصالات. فمن خلال شركته القابضة “فينانس كوم”، استطاع التحكم في حصص استراتيجية في “أورنج المغرب”، بالإضافة إلى إطلاق مشاريع بنية تحتية طموحة في إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
يمثل بنجلون نموذجاً لرجل الأعمال الذي لم يغب عنه تماماً الطموح السياسي، لكنه حافظ على مسافة محسوبة من دوائر القرار التنفيذي المباشر، مفضلاً التموقع داخل دائرة التأثير المؤسساتي والتكنوقراطي، وبناء علاقات متينة مع المؤسسات المالية الوطنية والدولية.
عزيز أخنوش.. المال في خدمة السلطة.. سؤال تضارب المصالح يتجدد:
في المشهد الاقتصادي والسياسي المغربي لعام 2025، يبرز اسم عزيز أخنوش كثالث أغنى شخصية في المملكة بثروة تقدر بنحو 1.5 مليار دولار، وفقاً لتصنيف “فوربس”. إلا أن هذه المكانة المالية المرموقة تصطدم بإشكالية جوهرية تتجاوز مجرد الأرقام، وهي الجمع بين رئاسة الحكومة وقيادة واحدة من أكبر المجموعات الاقتصادية الخاصة في البلاد، “أكوا”.
يترأس أخنوش مجموعة اقتصادية واسعة تنشط في قطاعات حيوية واستراتيجية للاقتصاد الوطني، مثل المحروقات والغاز والتوزيع، بالإضافة إلى بسط نفوذه على محطات تصفية مياه البحر و دخول عالم قطاع الصحة و الأدوية والعقار والإعلام. هذا التداخل بين السلطة التنفيذية وقيادة إمبراطورية اقتصادية ضخمة يثير تساؤلات وشبهات دائمة حول احتمالية تضارب المصالح، خاصة في ظل غياب قانون صريح وفعال ينظم بشكل واضح العلاقة بين المال والنفوذ السياسي في المغرب.
وقد زاد من حدة هذا الجدل ما أثير إعلامياً حول صفقة كبرى في قطاع تحلية المياه، حيث رست صفقة ضخمة بقيمة 15 مليار درهم على تحالف يضم شركة رئيسية مملوكة لمجموعة “أفريقيا غاز” التابعة لأخنوش. وقد أثارت هذه الصفقة نقاشاً حاداً تحت قبة البرلمان، حيث اتهم نواب من المعارضة الحكومة بتوجيه الصفقة لصالح رئيسها، في ما اعتبروه خرقاً واضحاً لمبدأ تكافؤ الفرص والشفافية في الصفقات العمومية.
وعلى الرغم من دفاع أخنوش عن قانونية الصفقة وتأكيده على أن عرض شركته كان الأكثر تنافسية من الناحية المالية، فإن الإشكال يظل قائماً: هل يمكن لرئيس حكومة أن تنافس شركاته في صفقات عمومية تندرج ضمن اختصاص وزارات يشرف عليها بشكل مباشر أو غير مباشر؟ هذا السؤال يعيد إلى الواجهة نقاشاً قديماً/جديداً حول ضرورة الفصل الواضح بين من يملك سلطة القرار ومن يملك القدرة على الاستفادة الاقتصادية.
وعلى الرغم من الجدل المحيط بشخصيته، تبقى مجموعة “أكوا” أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصاد المغربي، ولا يمكن إنكار دورها في تطوير البنية التحتية وخلق فرص العمل. إلا أن تجربته السياسية أعادت بقوة إلى الواجهة مسألة حوكمة العلاقة بين المال والسلطة في المغرب.
خلاصة: ثلاثية الثروة تعكس طبيعة الاقتصاد المغربي وتطرح أسئلة جوهرية:
في الختام، يكشف تصنيف “فوربس” للمليارديرات المغاربة ليس فقط حجم الثروات المتراكمة، بل يعيد طرح أسئلة أكثر عمقاً حول طبيعة الدولة ودور المال في منظومة الحكم وحدود الأخلاق في تدبير الشأن العام. هذه النماذج الثلاثة البارزة تسلط الضوء على طبيعة بناء الثروة في المغرب، حيث لا تعتمد بالضرورة على الابتكار الخالص أو المخاطرة المحضة، بل غالباً ما تتغذى من علاقات وثيقة مع مؤسسات الدولة أو من موقع استراتيجي قريب من مراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي. فأنس الصفريوي نما في ظل سياسات الإسكان العمومي،و عاد الى العالم الملياردات بعد مصاهرته مع عزيز أخنوش رئيس الحكومة،أما عثمان بنجلون بنى إمبراطوريته بالتحالف مع المؤسسات المالية الوطنية والدولية ودخول عالم الإتصالات، بينما عزيز أخنوش يجسد حالة فريدة من المزج بين السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي. هذه الديناميكيات المعقدة تستدعي تحليلاً معمقاً وتفكيراً استراتيجياً حول مستقبل الاقتصاد المغربي وعلاقته بالسياسة.