الأرقام تطمئن والمواطن يختنق.. تقرير المندوبية السامية للتخطيط يغضّ الطرف عن لهيب الأسعار في المغرب

مرة أخرى، تقدم المندوبية السامية للتخطيط أرقاماً تبدو في ظاهرها مطمئنة، تتحدث عن تباطؤ التضخم إلى 0,4% في الفصل الثالث من سنة 2025، لكن الواقع داخل الأسواق المغربية يروي قصة أخرى تماماً. فمن يتجول بين أسواق الخضر، ومحلات التموين، ومحطات الوقود، يدرك أن الأسعار لا تزال تلتهم القدرة الشرائية للمغاربة، وأن لغة الأرقام الرسمية بدأت تنفصل شيئاً فشيئاً عن نبض الشارع.
التقرير يتحدث عن اعتدال في مستويات الأسعار، لكنه يمر بسرعة على حقيقة أن المواد الغذائية الأساسية—التي تشكل عصب المصاريف اليومية للأسر—ما تزال تعرف التهاباً غير مسبوق، خصوصاً الخضر والمنتجات الطازجة التي شهدت ارتفاعات صاروخية منذ بداية النصف الثاني من السنة. فهل يعقل أن يعيش المواطن على وقع أسعار تفوق طاقته بينما يقال له إن التضخم تراجع؟
المندوبية تتحدث عن استقرار أسعار المواد غير الطازجة بفعل انخفاض الأسعار الدولية، لكن أين ينعكس ذلك على جيب المواطن؟ كيلوغرام العدس تجاوز 24 درهماً، الزيت ما زال فوق 120 درهماً، السكر في حدود 13 إلى 15 درهماً، الطماطم والبصل فقدا عقولهما سعرياً. هذه ليست أوهاماً أو انطباعات عابرة، بل معاناة يومية لجزء كبير من الأسر التي أصبحت عاجزة عن ملاحقة الغلاء.
ثم إن الحديث عن انخفاض أسعار الطاقة بـ 2,7% يبدو تلميحاً تجميلياً أكثر منه واقعاً ملموساً. فأسعار المحروقات في المغرب ما تزال من بين الأعلى إقليمياً رغم تراجع الأسعار في الأسواق العالمية، وذلك بسبب استمرار سياسة التحرير دون مراقبة وهو ما جعل أسعار البنزين والغازوال تتحكم فيها لوبيات المحروقات أكثر من منطق السوق.
تقرير المندوبية تجاهل أيضاً حجم الاحتقان الاجتماعي الذي يسببه الغلاء، وتدهور الطبقة الوسطى، واتساع دائرة الفقر. فالتضخم لم يعد رقماً اقتصادياً فحسب، بل أصبح قضية اجتماعية تمس الأمن والاستقرار والمعيش اليومي للمغاربة. ورغم كل ذلك، تكتفي المؤسسات الرسمية بإصدار نشرات تقنية مليئة بالأرقام الباردة التي تخفي حرارة الأسعار الملتهبة.
إن التضخم الحقيقي الذي يعيشه المغاربة ليس 0,4% كما تقول المندوبية، بل هو تضخم معيشة يلمسه المواطن في السوق كل يوم. فالأسعار لا تتراجع، بل تواصل الارتفاع بوتيرة تختلف حسب المواد والفصول والمضاربات. وما لم يتم تفعيل مراقبة صارمة للأسواق، ومحاربة الاحتكار، وإعادة النظر في السياسات الضريبية المفروضة على المواد الأساسية، سيستمر النزيف المالي للأسر.
الحقيقة أن لغة الأرقام شيء.. وواقع المعيشة شيء آخر. وبينما تتحدث البيانات الرسمية عن “الاعتدال”، يعيش المواطن المغربي أزمة صامتة عنوانها:
القدرة الشرائية في خطر.. والراتب لم يعد يكفي لمنتصف الشهر.