تحقيق: “شناقة المواشي”.. هكذا تُهدر المليارات من المال العام دون أثر على موائد المغاربة!

رغم مليارات الدراهم التي صرفتها الدولة في شكل إعفاءات جمركية وضريبية على استيراد المواشي منذ سنة 2022، لم يشعر المواطن المغربي بأي تحسن في أسعار اللحوم الحمراء. التحقيق في هذا الملف يكشف عن شبكة من الامتيازات غير المشروطة التي استفاد منها عدد محدود من المستوردين، وسط صمت حكومي مريب، وتضارب في أرقام الوزارات، وغياب لأي آلية لمراقبة الأثر الفعلي لهذا الدعم على السوق.
منذ أواخر عام 2022، بدأت الحكومة تطبيق سلسلة من الإجراءات لإعفاء واردات المواشي من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، معلنة أن ذلك يدخل ضمن جهودها لكبح التضخم ودعم القدرة الشرائية. لكن شيئًا لم يتغير على الأرض. اللحوم ما تزال بأسعار مرتفعة، والشكوك تتزايد حول الوجهة الحقيقية لهذه الامتيازات المالية الضخمة.
البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة المالية تشير إلى أن الخزينة العمومية خسرت ما يفوق 13.5 مليار درهم ما بين أكتوبر 2022 وأكتوبر 2024، جراء الإعفاءات الممنوحة لمستوردي المواشي. ويُتوقع أن تقفز هذه الكلفة إلى حدود 20 مليار درهم إذا ما استمر العمل بنفس السياسة خلال 2025.
ما يثير القلق أكثر هو أن هذه الامتيازات مُنحت لأقل من 300 مستورد، بينهم عدد محدود جدًا من كبار الفاعلين الذين حصلوا على النصيب الأكبر من الحصص. وقد بلغت نسبة استفادتهم حوالي 80% من الإعفاءات الممنوحة، في ظل غياب أي شروط تُلزمهم بتسقيف الأسعار أو إعادة توجيه الدعم للمستهلك النهائي.
هذه الإعفاءات لم تكن مشروطة بأي قيود على هامش الربح، كما يحصل في قطاعات أخرى مثل القمح، حيث تُحدد الدولة سعر البيع النهائي للمستهلك. في المقابل، في سوق اللحوم، تُركت الأمور للمستوردين، ما سمح لهم بتحقيق أرباح مضاعفة دون أي مراقبة.
تقارير مكتب الصرف كشفت عن ارتفاع مهول في واردات المواشي سنة 2024، التي بلغت قيمتها حوالي 5.6 مليارات درهم، بزيادة تقارب 95% مقارنة مع العام السابق. وفي الشهرين الأولين فقط من سنة 2025، تضاعفت قيمة واردات الحيوانات الحية لتصل إلى 1.04 مليار درهم، بنسبة ارتفاع بلغت 312% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2024.
هذا التصاعد الحاد في الاستيراد يضع سؤالًا بسيطًا في وجه الحكومة: لماذا لم تنخفض الأسعار؟
في الوقت الذي تؤكد فيه وزارة المالية أن الكلفة الإجمالية للإعفاءات على استيراد الأبقار والأغنام تقدر بمليارات الدراهم، تصر وزارة الفلاحة على أرقام أقل بكثير لا تتجاوز 44 مليار سنتيم، مما يطرح تساؤلات جدية حول شفافية تدبير هذا الملف.
ومن بين المعطيات المتوفرة:
-
استيراد 217 ألف رأس بقر بتكلفة تفوق 3.7 مليارات درهم.
-
استيراد أكثر من 1.1 مليون رأس غنم بتكلفة تفوق 1.9 مليار درهم.
-
دعم مباشر بقيمة 500 درهم للرأس الواحد من الأضاحي خلال سنتي 2023 و2024.
ورغم هذه الأرقام، لا أثر ملموس لهذا “الدعم الضخم” على أسعار السوق.
عملية منح التراخيص للاستيراد أثارت الكثير من الشبهات، خاصة أن الحصة الكبرى ذهبت لأقلية دون توضيح للمعايير المعتمدة في التوزيع. تساؤلات كثيرة تُطرح اليوم:
-
من اختار المستوردين؟
-
هل هناك معايير شفافة؟
-
أين ذهبت الأموال التي أُعفيت من الضرائب والرسوم؟
-
ولماذا لم تجرِ أي جهة تحقيقًا شفافًا في نتائج هذه العملية؟
في ظل هذا الوضع، صعدت أصوات داخل البرلمان تطالب بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول استيراد المواشي والدعم المرتبط به، بهدف الكشف عن المستفيدين الحقيقيين، المبالغ الممنوحة، وأسباب غياب الأثر في الأسواق، بالإضافة إلى مدى التزام الحكومة بالشفافية وتكافؤ الفرص في هذا الملف.
المعادلة واضحة ومقلقة: مليارات تُصرف، الأسعار لا تنخفض، والمستفيدون قلة قليلة.
في الوقت الذي تكافح فيه الأسر المغربية لتأمين لحوم الأعياد والموائد اليومية، يبدو أن الدعم الحكومي يسلك طريقًا لا يؤدي إلى المستهلك، بل إلى أرصدة من عرفوا من أين تؤكل كتف “الإعفاء”.
فهل تكشف لجنة التحقيق المرتقبة الستار عن هذه “الصفقة الكبرى”؟ أم سيبقى المواطن يدفع الثمن في كل كيلوغرام لحم يشتريه؟