من يقامر باستقرار المغرب؟: صراع الأحزاب في زمن “جيل Z”.. والبلاد على مفترق الطرق

ملف الأحد من إعداد :عبدالله مشواحي الريفي
تستمر احتجاجات “جيل زد” (Gen Z) في المغرب لليوم الثامن على التوالي، مؤكدة أن الإحتقان الاجتماعي قد بلغ مستويات غير مسبوقة. بينما يرفع الشباب شعارات مشروعة تطالب بتجويد قطاعي الصحة والتعليم وتوفير فرص الشغل ومكافحة الفساد، يبدو أن المشهد لم يعد حكراً على المطالب الاجتماعية البحتة. ففي الكواليس السياسية، بدأ صراع خفي وعلني بين مختلف الفرقاء السياسيين، معارضة وأغلبية، في مشهد يوحي بأن هذه القوى “شحذت سكاكينها” استعداداً لاقتناص الفرصة.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ويجب أن يكون منطلقاً لأي قراءة عميقة للمشهد: من يقامر حقاً باستقرار المغرب؟ هل هو الغضب الشبابي العفوي، أم التجاذبات السياسية الانتهازية التي تسعى للركوب على موجة الشارع لتصفية حسابات ضيقة؟ يبدو جلياً أن الاحتجاجات، بحدتها وسرعة انتشارها، قد أيقظت شهية أحزاب ظلت “تنتظر متى تفتح دكاكينها السياسية” قبيل انتخابات 2026، لتحول الأزمة الاجتماعية إلى ورقة انتخابية رابحة، حتى لو كان الثمن هو الدفع بالبلاد نحو المجهول.
1. استغلال الحراك: شبح “20 فبراير” يعود بأثواب جديدة
إن أخطر ما يواجه أي حراك شعبي مشروع هو محاولات “سرقة الثورة” أو “الركوب على الموجة”. والمغاربة اليوم يستحضرون تجربة “حراك 20 فبراير” قبل 14 سنة، وكيف استغلته بعض الأطراف لتصل إلى سدة الحكم لعشر سنوات “سوداء” في نظر الكثيرين، فشلت خلالها في تحقيق الإصلاح الحقيقي، بل ساهمت في تعميق الأزمة.
هنا، يبرز اسم عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية. فمع انطلاق احتجاجات “جيل زد”، ارتفع منسوب خرجات قادة هذا الحزب الإعلامية، مباركين للاحتجاجات بلغة إزدواجية: فهم يتبنون مطالب الشارع من جهة، لكنهم لا يقدمون أي اعتراف بأن حزبهم الذي قاد الحكومة لعقد من الزمن يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تردي الأوضاع وظهور هذا الاحتقان الشعبي.
تصريحات بنكيران، التي قال فيها إنه سبق وأن حذر من عودة “الربيع العربي و20 فبراير”، لا تبدو بريئة. هي محاولة واضحة لتقديم الحزب كـ”نبّي” سياسي يرى ما لا يراه الآخرون، مع تبرئة الذات من أي مسؤولية تاريخية. هذا التكتيك، الذي يذكر بـ محاولات “الإنقضاض على الشارع في وضح النهار”، يؤكد أن حزب العدالة والتنمية، ومعه أطراف أخرى ذات مرجعية إسلامية كـ “جماعة العدل والإحسان”، إضافة إلى بعض أحزاب اليسار التي تحاول العودة من البوابة الاجتماعية، تنظر إلى الاحتجاجات كـ “فرصة سانحة”، وليس كـ “إنذار وطني” يستوجب توحيد الجهود.
هذا السلوك، المتمثل في تأجيج الشارع وشحد السكاكين بدل المساهمة في التهدئة والحوار، هو قمة المقامرة باستقرار البلاد. فمن يسعى لتحقيق مكاسب حزبية أو انتخابية على حساب السلم الاجتماعي يدفع بالمغرب نحو أزمة خطيرة قد تتخذ مجرى لا يمكن لأحد أن يتوقعه.
2. استهداف خارجي وصراع أجنحة داخلية: الخطر المزدوج
الوضع الراهن ليس مجرد أزمة داخلية، بل هو محك حقيقي يكشف عن مدى تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة أطماع خارجية وصراعات أجنحة داخلية.
أ. الاستهداف الخارجي: يجب على الجميع أن يعي ويعترف بأن المغرب مستهدف من الخارج. إن ظهور علامات على عودة نشاط جماعات “الإخوان المسلمين” المدعومة من أطراف إقليمية كـ قطر في شمال إفريقيا وبعض الدول العربية، يؤكد أن المنطقة تخضع لمخططات تهدف لزعزعة استقرار الدول. المغرب، الذي استعصى على هذه الجماعات وضع موطئ قدم فيه بشكل كامل، يُنظر إليه كهدف استراتيجي. والسؤال: هل هناك مشاركة “سرية” أو “غير مباشرة” لأطراف داخلية في تنفيذ مخططات خارجية عن طريق التجييش والإثارة؟ محاولة بعض الأطراف استغلال الاحتجاجات لتأجيج الشارع بدلاً من التهدئة قد يُفسَّر ضمن هذا السياق الخطير.
ب. صراع الأجنحة الداخلية: إلى جانب التهديد الخارجي، هناك صراع أجنحة داخلية تسعى لبسط نفوذها على المملكة. هذا الصراع لا يقتصر على الأحزاب المعارضة والأغلبية، بل يمتد إلى داخل هياكل الدولة. الأزمة الحالية توفر بيئة مثالية لهذه الأجنحة لإضعاف بعضها البعض، ما يزيد من تعقيد المشهد ويُشتت تركيز الحكومة عن مهمتها الأساسية: خدمة المواطن. من يقامر باستقرار المغرب هو كل من يستغل هذه الفرصة لصالحه الخاص دون النظر إلى مصلحة الأمة.
3. دور الحكومة: خطاب واقعي و”تعديل حكومي قادم لا محالة”
إن الحكومة الحالية، بسلبياتها وإيجابياتها، تقف أمام اختبار مصيري. لم يعد هناك مجال للإنكار أو اللغة الخشبية. هي مطالبة بـ:
- خطاب واقعي وشفاف: يجب أن يخرج رئيس الحكومة بخطاب يتسم بالوضوح المطلق مع الشباب، يتجاوز لغة الوعود ويقدم إجابات عملية.
- الاعتراف بالتقصير: على الحكومة أن تعترف بوضوح بأن هناك أوراش إصلاحية قد تأخرت شيئاً ما، وأن مطالب الشباب “حقة ومشروعة”. هذا الاعتراف دليل على القوة وليس الضعف.
- مراجعة جذرية للسياسات: يجب مراجعة السياسات في القطاعات التي أشعلت الشارع (الصحة والتعليم والتشغيل) بشكل فوري وعملي.
- التعديل الحكومي: بات تعديل حكومي قادم لا مفر منه. إقالة وزيري الصحة والتعليم، ومن يثبت فشله أو تورطه في سوء التدبير، هي خطوة لا يمكن تأجيلها لاستعادة الثقة وتطبيق مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
4. الدعوة إلى الانفراج والمصالحة الوطنية الثانية
في ظل هذا المشهد المعقد، تقع على عاتق الدولة والمؤسسات مسؤولية تاريخية لإعادة وضع السكة على مسارها الصحيح. المطلوب اليوم هو:
- انفراج واسع: لا يمكن حل الأزمة في ظل تضييق سياسي أو حقوقي.
- إطلاق سراح المعتقلين السياسيين: هذه خطوة ضرورية لتهدئة النفوس وتوفير مناخ الثقة اللازم للحوار والإصلاح.
- المصالحة الوطنية الثانية: لعل جلالة الملك محمد السادس مدعو لإطلاق مبادرة “مصالحة ثانية”، تعترف بالتقصير، وتفتح صفحة جديدة للإصلاح السريع والحقيقي، بعيداً عن الشعارات الجوفاء. هذه المصالحة يجب أن تضع خريطة طريق واضحة لمحاربة الفساد ونهب المال العام، وتفعيل شعار ربط المسؤولية بالمحاسبة و القضاء النزيه كضامن للحقوق والحريات.
صوت العقل مقابل لغة المقامرة
إن إحتجاجات “جيل زد” هي في جوهرها صرخة وطن وليست مؤامرة. هي فرصة تاريخية للقيام بالإصلاحات المؤجلة. وعلى الأحزاب السياسية كافة أن تخجل من نفسها، وتتراجع عن منطق إشعال النيران الاجتماعية بهدف تحقيق مكاسب انتخابية ضيقة. ففي نهاية المطاف، الخاسر الأكبر من هذه “المقامرة” ليس حزباً أو حكومة، بل هو شعب بأكمله وأمة مهددة في استقرارها وأمنها.
المملكة اليوم مطالبة بـ “صوت العقل” وترك “لغة المقامرة”. حماية استقرار المغرب مسؤولية جماعية، تتطلب من الجميع الإسهام بإيجابية في إيجاد الحلول، وليس دفع المملكة نحو التهلكة في سبيل مصالح شخصية أو حزبية عابرة. إن الاستجابة لمطالب الشباب والإصلاح الجذري هو الرد الأقوى والأكثر فعالية على كل من يقامر باستقرار هذا الوطن العظيم.