مجتمع

“مغرب الفرص”: قذيفة في صميم الأزمة العميقة – انهيار الرؤية وتهاوي الطبقة المتوسطة

مقال تحليلي: فاس 24

لطالما كان المشهد السياسي المغربي يدار بمنطق “الترويج لصفاء السماء”، لكن هذه الفترة العصيبة التي تمر بها المملكة لا تترك مجالاً للشك بأن الضبابية وغياب الرؤية الحقيقية للمسار السياسي هما سيدا الموقف. نحن نعيش في زمن “العواصف والبرق” التي تضرب فجأة دون سابق إنذار، كاشفةً عن هشاشة بناء تم إيهامنا بصلابته. هذا هو حال البلاد، وحال الحكومة الحالية التي يقودها عزيز أخنوش، وحال الأحزاب السياسية التي تحولت إلى هياكل جوفاء.

المحور الأول: “مغرب الفرص” كمشروع لا-مساواة

إن الوصف الأدق للوضع الراهن هو “مغرب الفرص”، لكنه وصف يجب أن يُقرأ بمنظار نقدي لا يرحم. إنها ليست فرصًا للجميع، بل فرص النخبة الحصرية التي استغلت التحولات الاقتصادية لتكريس نموذج تنموي قمعي اجتماعيًا.

لقد تحول “الاستقرار” السياسي إلى غطاء سمح لطبقة أرستقراطية جديدة وقديمة بالازدهار على حساب الوطن. هذا الازدهار ليس وليد العمل الشاق والابتكار بالضرورة، بل هو نتيجة مباشرة لـ**”السطو الممنهج على الصفقات العمومية”** التي تُفصَّل على مقاس محدد، وتجاوز القانون في “تضارب المصالح” الذي بات قاعدة لا استثناء.

عندما يتحدث رئيس الحكومة في تجمعاته، كما حدث في مديونة، عن “مغرب الفرص”، فإنه يؤكد بعظمة لسانه هذا الانقسام. إنه يعترف بوجود فرص، لكنه يغفل عن حقيقة أن هذه الفرص “منعدمة” لدى عموم الشعب، بينما هي “متوفرة وفائضة” لدى فئة قليلة من النخبة التي تدير دواليب الحكم والاقتصاد خلف الستار. هذا التناقض هو قنبلة موقوتة تهدد السلم الاجتماعي.

انهيار الطبقة الوسطى: القلب النازف

إن أخطر معطى اجتماعي في المرحلة الحالية هو التآكل السريع للطبقة المتوسطة. هذه الطبقة، التي كانت العمود الفقري للاستقرار السياسي والاقتصادي، تُدفع اليوم بقوة نحو هاوية “الفقر جداً” بفعل ضربتيّن قاسيتين:

  1. التضخم الجامح: ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية الأساسية، مدفوعًا بقرار الحكومة رفع الدعم وتوجهها نحو “التحرير”، دون توفير شبكات حماية اجتماعية قوية ومستدامة.

  2. تجميد الأجور والبطالة المقنعة: في المقابل، تظل الأجور ثابتة أو ترتفع بشكل لا يواكب التضخم، مما يعني انخفاضًا فعليًا في القدرة الشرائية. النتيجة هي بنية اجتماعية “هشة” على وشك الانهيار.

إن الدولة لا يمكن لها أن توفر سيولة ضخمة لتجاوز الأزمات الاجتماعية التي تخلفها هذه السياسات. هذا العجز ليس ماليًا بقدر ما هو عجز رؤية وإرادة سياسية في إعادة توزيع الثروة بشكل عادل.

المحور الثاني: شلل الدكاكين الحزبية والفراغ السياسي

ما يزيد الطين بلة هو المشهد الحزبي المتهاوي. لقد تحولت الأحزاب، سواء في الأغلبية أو المعارضة، إلى مجرد “دكاكين سياسية” تفتح أبوابها قبيل كل استحقاق ثم تعود إلى سباتها.

الأغلبية: ثالوث السطوة وتناسل الفضائح

تحالف الأغلبية الحالي لا يمثل إجماعًا سياسيًا بقدر ما يمثل “تكتل مصالح”. إنها أغلبية “تفترس الأخضر واليابس”، مستغلة سلطتها المطلقة لتمرير القوانين والصفقات التي تخدم مصالح أجنحتها الاقتصادية والسياسية.

  • الفضائح الحكومية تتناسل بوتيرة غير مسبوقة: من قضايا تضارب المصالح المدوية، إلى شبهات الفساد في تدبير الأزمات، وصولاً إلى استغلال النفوذ. والغريب أن هذه الفضائح لا تؤدي إلى استقالات أو محاسبة حقيقية، مما يكرس منطق “الإفلات من العقاب”.

  • الغياب التام للرقابة الذاتية: الحزب القائد للأغلبية يتعامل مع الانتقادات بتعالٍ، مستندًا إلى ثقل سيولته المالية، مما يحول العملية السياسية إلى مجرد “مزاد للأصوات”، وليس تنافساً للبرامج.

المعارضة: عجز مزمن وخيانة تاريخية

في المقابل، تعيش المعارضة “مخاضًا سياسيًا” ينتهي دائمًا بولادة قيصرية لكيانات ضعيفة. هذه المعارضة “غير قادرة على الدخول في صراع القمة” أو لعب دور الرقيب الفعلي.

  • معارضة “تكتيكية”: هي إما معارضة شكلية، تكتفي بالبيانات الخجولة، أو معارضة “مستأنسة” تخشى رفع سقف النقد خوفًا من خسارة مكاسبها أو إغضاب دوائر النفوذ.

  • خيار الانسحاب: عدم قدرتها على بناء جبهة نقدية قوية يمثل “خيانة تاريخية” لصوت الناخبين. لقد تركت الساحة فارغة أمام الأغلبية، محولة الديمقراطية التمثيلية إلى مسرحية هزيلة.

المحور الثالث: انسحاب الشعب ومأساة اللامبالاة

إن أخطر ما يهدد البنية السياسية ليس فساد النخبة فحسب، بل “انسحاب المواطن” من المعادلة. لقد قرر الشعب، بعد أن استنفذ طاقته في الاحتجاج والمطالبة، أن “ما يقع لا يدخل في اختصاصاته الشخصية”.

  • التفرج والمتابعة الصامتة: أصبح التفاعل الوحيد مع الشأن العام هو “التفرج والمتابعة” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في حالة من اللامبالاة واليأس. هذا التخلي يمثل تفويضاً ضمنياً للنخبة لتفعل ما تشاء.

  • ترك السياسة لدكاكينها: عندما “يطلق الجميع السياسة”، تفتح “الدكاكين الحزبية” أبوابها، لا لاستقبال الكفاءات، بل لتوظيف “أبناء الهوامش”، الفقراء والمستضعفين، ليكونوا “خزانًا ووقودًا مشتعلًا” لأي استحقاق قادم. يتم استغلال فقرهم وحاجتهم لتحويلهم إلى مجرد “أصوات مريضة” تُباع وتُشترى في سوق الانتخابات. هذا التوظيف للمهمشين يكرس دورهم كوقود، وليس كشركاء في بناء الوطن.

 دعوة إلى اليقظة قبل فوات الأوان

إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو “أزمة ثقة عميقة” في النموذج التنموي، وفي الفاعلين السياسيين، وفي آليات الديمقراطية. “مغرب الفرص” هو في الحقيقة “مغرب التناقضات الحادة”، حيث تتعمق الفجوة بين الأغلبية المُفقرة والأقلية المُثرية.

إن استمرار هذا المسار، المعتمد على ضبابية الرؤية والاستغلال المفرط للنفوذ وشلل المعارضة، لن يؤدي إلا إلى تفكيك آخر ما تبقى من شبكات الأمان الاجتماعي والسياسي. اللحظة تستدعي يقظة وطنية حقيقية ورفع سقف النقد إلى مستويات غير مسبوقة، لإجبار هذه النخبة على مراجعة مسارها قبل أن تنهار البنية الاجتماعية تحت ثقل الظلم واللامساواة. هذا ليس مجرد مقال، بل صرخة تحذير في وجه من يظنون أن صمت الشارع يعني الأمان الدائم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى