سياسة

صرخة “جيل Z” المغربي: هل تسعى “الأصابع القليلة” للتغيير من “غرف ديسكورد” أم صناديق الاقتراع؟

مقال تحليلي إخباري: عبدالله مشواحي الريفي

تشهد الساحة العامة المغربية مؤخراً تجربة احتجاجية لافتة، تتقاطع فيها ملامح الغضب الاجتماعي مع آليات الحشد الرقمي الحديثة، بقيادة ما بات يُعرف بـ “جيل Z” أو “جيل 212”. هذه الموجة الاحتجاجية، التي تتسم بانتفاضتها السريعة من رحم الفضاءات الافتراضية كـ “ديسكورد” ومنصات التواصل الاجتماعي، تطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الحراك، ومستقبله، ومدى وعي هذا الجيل بآليات التغيير المؤسساتي والسياسي الحقيقية في المملكة المغربية. هل نحن أمام “ثورة رقمية” عابرة فقدت بوصلتها قبل أن تكتمل، أم أنها مؤشر على تحول أعمق في طرق التعبير السياسي لدى الشباب؟

تآكل الوهج وتناقص الأعداد: حراك بلا قاعدة جماهيرية؟

منذ الوقفات والخرجات الاحتجاجية الأولى، تبرز ملاحظة دقيقة وقوية: الحراك يفتقر إلى القوة الجماهيرية الحاشدة التي تشكل الضغط الشعبي اللازم للتغيير العميق. الأرقام المسجلة، التي تشير إلى مشاركة لا تتجاوز حدود بضعة آلاف على مستوى 11 خرج، هي مؤشر على أن “أصابع الشباب” التي تخرج للشارع هي قلة قليلة لا تمثل ثقل الكتلة الشبابية المغربية.

هذا التناقض بين الضجيج الرقمي والحجم الميداني يعكس هشاشة الحراك وبنيته غير المنظمة وغير المهيكلة. فالاحتجاج في الشوارع، كما يثبت التاريخ السياسي للمغرب والعالم، يحتاج إلى تأطير، وقيادات واضحة، و إجماع شبه وطني يكتسح الميدان ويُسقط الحكومات، لا مجرد تفاعلات متقطعة تغيب عنها الخبرة التاريخية في التعامل مع مسارات التغيير التقليدية. هذا الجيل، بحسب التحليل، لم يعش تجارب الاحتجاجات الكبرى السابقة، مما يجعله ينهار أو يذوب بريقه بسرعة، وكأنه “ظهر غريباً وسينتهي غريباً”.

بوصلة التغيير الضائعة: من الصندوق أم من “الغرف السوداء”؟

لعلّ النقطة الأكثر أهمية في تحليل هذا الحراك هي غياب البوصلة السياسية الواضحة، خاصة فيما يتعلق بآلية التغيير المعتمدة في المغرب منذ دستور 2011. التغيير، المنشود من قبل المحتجين، يجد أساسه المؤسساتي في صناديق الاقتراع. لكن المفارقة الصارخة التي يطرحها الحراك، كما تؤكده المعطيات، هي أن الغالبية الساحقة من شباب “جيل Z” المتظاهر لا تملك صفة الناخب، حيث تشير الإحصائيات الخاصة بالانتخابات الماضية إلى نسبة تسجيل ضعيفة جداً للشباب في اللوائح الانتخابية، وخاصة الفئة العمرية ما بين 18 و 24 سنة.

كيف يمكن لفئة تقاطع الآلية الديمقراطية الرئيسية المتاحة أن تطالب بـ “التغيير من الميدان”؟ إن غياب التسجيل في اللوائح الانتخابية يعني عملياً التنازل الطوعي عن الحق في اختيار الحكومة والبرلمان ومحاسبتهم، وهو ما يضع شرعية المطالبة بالتغيير السياسي من خارج هذا الإطار في موضع مساءلة حقيقية. إن الانخراط في عملية الاقتراع، الذي أكد عليه جلالة الملك في خطبه بضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد عبر آليات مؤسساتية، هو أول خطوة نحو تفعيل المراقبة الشعبية وتصحيح المسار السياسي.

الأوهام الرقمية: “ديسكورد” وبناء الكبت السياسي

لقد أثبتت منصات التواصل الاجتماعي دورها كفضاء مفتوح للاحتجاج وتشكيل رأي عام سريع في المغرب، كما حدث في حركات سابقة . لكن في حالة “جيل Z”، يبدو أن الاعتماد المفرط على “غرف الدردشة” المغلقة مثل “ديسكورد” قد أفرز مساراً مختلفاً. هذه الغرف، التي غالباً ما تكون محدودة وتستقبل أشخاصاً يسعون إلى إثارة خطاب الإحباط والكبت، تبني أوهام التغيير الجماهيري دون أرضية صلبة.

إن غالبية المغاربة لا تنتمي لهذه الفضاءات الضيقة، مما يعني أن “الإجماع” الذي يتم تصنيعه رقمياً هو فقاعة لا تمثل النبض الوطني العام. بل إن تحليل الوجوه التي تستضيفها هذه الغرف للنقاش يكشف عن أشخاص يقدمون أنفسهم كمعارضين أو مروا عبر السجون بفعل جرائمهم المقترفة، لكنهم لم يساهموا يوماً في إصلاح البلاد عبر القنوات الرسمية أو الدعوة البناءة والمنظمة لمحاربة الفساد ضمن أطر قانونية أو مؤسساتية. التغيير الفعال لا يمكن أن يولد من “الغرف السوداء” أو النقاشات المحدودة، بل من العمل المنظم، والتأطير المدني والسياسي، والمشاركة المؤسساتية الواسعة.

الملكية الضامن: ربع قرن من الطفرة رغم العواصف

من الضروري وضع هذا الحراك في سياقه الأوسع. المغرب، في ظرف ربع قرن، عرف طفرة تنموية كبيرة، خاصة على مستوى البنية التحتية والمشاريع الكبرى (ميناء طنجة المتوسط، البراق، شبكات الطرق السيارة) وتحقيق قفزات في الناتج المحلي الإجمالي للفرد. لقد استطاع المغرب الوقوف شامخاً في وجه عواصف إقليمية وعالمية، بما في ذلك جائحة كورونا، بفضل السياسة الملكية التي تعلو فوق كل السياسات الحكومية.

القيادة الملكية ظلت هي الضامن لأمن واستقرار البلاد، وهي التي وجهت الأوراش التنموية الكبرى. الاحتجاج على تردي بعض الخدمات أو ضعف فرص العمل (وهي مطالب مشروعة) يجب أن يوجه نحو المساءلة الحكومية والمنتخبين، وليس التشكيك في الأسس الاستراتيجية للدولة. إن توجيه نيران الغضب نحو الحكومة عبر أدوات ديمقراطية فعالة (كالانتخابات والمساءلة البرلمانية) هو الطريق الأسلم للاستجابة للتطلعات الشبابية، مع الحفاظ على الاستقرار الذي يضمن استمرار الأوراش التنموية.

ضرورة التوجيه والتأطير

إن صرخة “جيل Z” هي في جوهرها انعكاس لمشكلة انعدام الثقة في العمل السياسي الحزبي وربما الفراغ السياسي الذي لم تجد فيه الأحزاب التقليدية لغة تواصل مع هذا الجيل الرقمي. لكن التعبير عن الغضب يجب أن يقترن بآلية عمل فعالة.

إن مصير “جيل Z” الاحتجاجي يظل مرتبطاً بـ:

  1. اكتشاف البوصلة المؤسساتية: توجيه الطاقات الاحتجاجية نحو التسجيل والمشاركة في الانتخابات لمحاسبة المسؤولين.
  2. الخروج من العزلة الرقمية: تجميع القوة العددية في الشارع عبر تأطير حقيقي، بدلاً من الاكتفاء بالعدد المحدود من “أصابع الشباب”.
  3. تبني لغة الإصلاح البناء: توجيه المطالب المشروعة نحو مكافحة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة ضمن إطار يضمن استمرار الاستقرار والتنمية.

إن هذا الجيل الشاب، الذي يمثل مستقبل الأمة، يواجه تحدي تحويل صرخته العابرة من “غرف ديسكورد” إلى قوة تغيير فعالة عبر صناديق الاقتراع ومؤسسات الدولة. الإخفاق في ذلك يعني أن حراكه سيظل مجرد “غضب رقمي” يخفت نوره بسرعة، ويظل غريباً في ظهوره ومنتهاه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى