الوالي الجديد على فاس – مكناس أمام امتحان النار: بين إرث الفوضى وضرورة تطهير الإدارة من “مافيا الانتفاع”

تحركات وزارة الداخلية الأخيرة لم تأت من فراغ. فهي تزامنت مع الحراك الإجتماعي الذي قوده شباب جيل “زيد”، فقرار تعيين الوالي خالد الزروالي على رأس جهة فاس – مكناس، لم يكن مجرد حركة إدارية روتينية، بل إشارة قوية إلى أن الوزارة أدركت أن الجهة تغرق في فوضى صامتة، وأن العاصمة العلمية للمملكة فقدت بريقها تحت وطأة العبث والفساد والتسيب الإداري.
الوالي الجديد، القادم من دهاليز الملفات الحساسة في الداخلية، حيث كان مكلفاً بملفات الهجرة ومراقبة الحدود، يجد نفسه اليوم أمام مهمة أكثر تعقيداً: إعادة فاس إلى سكتها الصحيحة، وإعادة الثقة إلى الإدارة الترابية التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى جهاز ثقيل عاجز عن مواكبة التحديات، وأكثر ميلاً إلى المجاملة والتردد.
▪️ مدينة بلا نبض إداري
فاس التي كانت يوماً منارة للعلم والعمران والروح المغربية الأصيلة، تحولت اليوم إلى مدينة منهكة، تتعايش فيها الفوضى مع الإهمال، واللامبالاة مع الفساد الصغير والكبير.
فالشوارع متداعية، والمرافق الجماعية تئن تحت وطأة سوء التدبير، وملفات النظافة تحولت إلى منجم مفتوح للصفقات المشبوهة التي تلتهم الملايين دون أثر ميداني واضح.
في كل حي من أحياء فاس، يمكن أن ترى مشهداً يعكس العبث الإداري: نفايات متراكمة، إنارة عمومية منطفئة، حدائق مهجورة، وباعة جائلون يحتلون الملك العمومي تحت أنظار السلطات. المواطن لا يجد مخاطباً، والإدارة ترد بالصمت أو التسويف. أما مجلس جماعة فاس، فقد فقد السيطرة على تدبير المال العام، وتصرف بعض دوائره وكأنها ضيعة خاصة في يد قلة من المستفيدين الذين حولوا الشأن المحلي إلى غنيمة.
▪️ شبكة المصالح: الدولة العميقة للفساد المحلي
ما ينتظر الوالي الزروالي ليس فقط إصلاح أوراش متعثرة أو ترميم شوارع مهترئة، بل مواجهة منظومة متكاملة من المنتفعين والوسطاء والمضاربين، الذين وجدوا في فاس أرضاً خصبة لتدوير المال العام في قنوات مظلمة.
فهناك من اعتاد على الالتفاف حول كل والي جديد، يزين له الكلام، ويقدّم نفسه “فاعل خير”، لكنه في العمق يسعى إلى حماية مصالحه الشخصية. هؤلاء هم من خربوا المدينة، وهم من يجب أن يُكشفوا ويُبعدوا نهائياً،و هم ذات الأشخاص الذين عجلوا بإعفاء الوالي السابق معاذ الجامعي بعد أن باعوا له الوهم.
صفقات النظافة نموذج صارخ: شركات بعقود غامضة، ودفاتر تحملات تُفصّل على المقاس، وتدبير يومي تحكمه المحسوبية أكثر من المراقبة. في المقابل، المواطن يؤدي الضريبة ولا يرى أي تحسن في الواقع البيئي للمدينة.
أما النقل الحضري فحدث ولا حرج، حافلات متهالكة، خطوط غير منظمة، وتدبير ارتجالي يسيء إلى سمعة الجهة التي يُفترض أن تكون واجهة حضارية للمملكة في أفق احتضانها تظاهرات قارية ودولية كبرى.
▪️ غياب العدالة المجالية وتهميش الأقاليم
الوالي الجديد مطالب كذلك بتصحيح الاختلالات الجهوية التي عمّقت الإحساس بالغبن داخل أقاليم الجهة التسعة. فبينما تحظى بعض الأقاليم بمشاريع متكررة وبميزانيات ضخمة، تُترك أقاليم أخرى في الهامش دون أدنى مبرر.
هذه المحسوبية الجهوية خلقت شرخاً حقيقياً بين مكونات الجهة، وأضعفت جاذبيتها الاستثمارية. فكيف يمكن لجهة بمؤهلات فلاحية وصناعية وسياحية هائلة أن تظل عاجزة عن خلق فرص الشغل؟
على الوالي الزروالي أن يترافع بقوة أمام مجلس الجهة وأن يفرض مبدأ الإنصاف المجالي في توزيع المشاريع، وأن يفتح ملفات الدعم العمومي والصفقات الجهوية التي تحوم حولها الشبهات. فالتنمية لا يمكن أن تتحقق بالانتقائية والزبونية، بل بالشفافية وتكافؤ الفرص.
▪️ فاس بين الماضي والمستقبل: التراث في الإنعاش
ثم إن فاس لا يمكن أن تنهض من دون إعادة الاعتبار لتراثها الثقافي والحضاري. فالمدينة التي تحمل ذاكرة الأندلس والمغرب العميق، تُركت لسنوات فريسة للإهمال والعشوائية.
المباني التاريخية تتهاوى بصمت، والمدينة العتيقة تحولت إلى فضاء مزدحم يفتقد التنظيم والمراقبة، رغم المشاريع الكبرى التي أُطلقت سابقاً. واليوم، فاس بحاجة إلى رؤية جديدة تستثمر في تراثها، ليس كشعار سياحي، بل كرافعة اقتصادية وثقافية حقيقية.
▪️ عودة الصرامة و ضرورة تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة
التجارب السابقة أثبتت أن الإصلاح في فاس لا يمكن أن ينجح إلا بصرامة حقيقية، على غرار النهج الذي ميز فترة الوالي أزنيبر سعيد، الذي واجه المفسدين بشجاعة ورفض كل أشكال المجاملة.
وعلى الزروالي أن يستلهم هذا النهج: أن يكون قريباً من الميدان، صارماً مع المتقاعسين، وألا يسمح لأي كان بالعبث بقراراته. لأن الإدارة الترابية ليست فضاءً للمجاملات السياسية، بل مؤسسة لتنفيذ القانون.
ولن يتحقق ذلك إلا بفرض رقابة حقيقية على رجال السلطة أنفسهم، بعد أن تحولت بعض الملحقات الإدارية إلى بؤر للوساطة والمحسوبية. ملفات البناء العشوائي واحتلال الملك العمومي وتجارة الرصيف يجب أن تُفتح من جديد، وأن يُحاسَب كل من تورط في التستر أو التواطؤ. فالمسؤولية الإدارية لا تتجزأ، ومن يتقاعس يجب أن يغادر.
▪️ فاس بين لوبيات المال والمنتخبين
المشهد المحلي في فاس يكشف تداخلاً خطيراً بين السياسي والاقتصادي. فبعض المنتخبين أصبحوا رجال أعمال، وبعض رجال الأعمال تحولوا إلى سياسيين لحماية مصالحهم. هذه المافيا المتخفية في ثوب الديمقراطية هي العائق الأكبر أمام أي إصلاح حقيقي.
إنهم يتحكمون في الصفقات والعقارات والمشاريع، ويستعملون نفوذهم داخل الجماعة لتوجيه الملايير إلى جيوبهم، في ظل غياب الرقابة الجادة. فهل يمتلك الوالي الزروالي الشجاعة الكاملة لكسر هذه الشبكة؟
فاس لم تعد تحتمل مزيداً من التجارب الفاشلة ولا التسيير الارتجالي. ما تحتاجه اليوم هو والي يقود ثورة إدارية هادئة، يواجه من خلالها الفساد المالي والإداري في كل قطاع، من الجماعة إلى المقاطعات، ومن الوكالات الحضرية إلى المصالح التقنية.
▪️ استراتيجية جديدة أم إعادة إنتاج الفشل؟
ينتظر من الوالي الجديد أن يعلن عن خريطة طريق واضحة تتضمن إصلاحات حقيقية، تبدأ من إعادة هيكلة الجماعات الترابية وربط المسؤولية بالمحاسبة، مروراً بتسريع المشاريع الكبرى المتوقفة، وصولاً إلى دعم الاستثمار المنتج لا الريعي.
الاستثمار في جهة فاس مكناس يجب أن يعود إلى مساره الطبيعي: شفاف، تنافسي، نظيف. فقد تحولت المدينة في السنوات الأخيرة إلى ساحة للمضاربة العقارية أكثر منها فضاءً للمشاريع الصناعية والخدماتية.
ولا يمكن لأي نموذج تنموي أن ينجح إذا لم يتم استرجاع ثقة المواطن. وهذه الثقة لن تعود إلا عبر الوضوح، والمصارحة، والقطع مع سياسة التزيين الإعلامي التي اعتادت بعض الجماعات الترويج لها، في حين أن الواقع يقول العكس تماماً.
▪️ رسالة إلى الوالي الجديد: لا تسامح مع الفساد
الرسالة التي يوجهها الشارع الفاسي إلى الوالي خالد الزروالي واضحة: لا نريد شعارات، بل قرارات.
الساكنة تطالب بإعادة النظام إلى الفضاء العام، بتنظيف المدينة من أدران الفساد، وبإعادة الكرامة لمؤسسات الدولة.
فاس تحتاج إلى مسؤول ينزل إلى الشارع بنفسه، يواجه بعينه الاختلالات، لا من وراء المكاتب، بل وسط الناس الذين فقدوا الثقة في الجميع.
وحتى تنجح مهمته، عليه أن يقطع الطريق أمام المصفقين والانتهازيين الذين سيتقاطرون عليه في الأيام الأولى لتقديم أنفسهم “مستشارين” و“وسطاء”. فهؤلاء هم الخطر الأكبر، لأنهم خبروا كيف يلتفون حول السلطة حتى يُفرغوها من مضمونها في صالات الرياضة و صالونات التدليك و رياضات الأكلات الفاخرة.
فاس اليوم أمام مفترق طرق. فهل سينجح الزروالي في مراقبة تحركات الجماعات الترابية و رجال السلطة و نبض الشارع و هلاك المرافق، كما كان يفعل مع مراقبة الحدود و تدفق الهجرة و الهجرة المضادة،فإما أن ينجح الوالي الجديد في فرض سلطة القانون وتطهير الإدارة من الفساد وإعادة الحياة للمدينة، أو أن تظل دار لقمان على حالها، رهينة لوبيات المصالح والعبث بالمال العام. و الذي يزيد من الإحتقان الحالي و ان إنفجرت الأوضاع بفاس من احزمة الفقر و البؤس فإن عملية السيطرة تكون جد صعبة.
التاريخ سيسجل أن فاس كانت يوماً حاضرة للعلم والتاريخ، فهل ستُكتب في عهد الزروالي صفحة جديدة عنوانها الصرامة والإنقاذ؟ أم سيُضاف اسمه إلى لائحة من مرّوا دون أن يتركوا أثراً؟