سياسة

ملف الأحد : إدانة ملكية وفشل حكومي – اللقاءات التشاورية تكشف مغرب الهشاشة و سنوات الضياع

ملف الأحد : عبدالله مشواحي الريفي

1. الإعلان عن الفشل: خطاب العرش يُسقط الأقنعة

إن اللقاءات التشاورية التي انطلقت في نوفمبر 2025 في مختلف العمالات والأقاليم لم تكن مجرد آلية بيروقراطية جديدة، بل كانت وثيقة إدانة رسمية بختم التوجيه الملكي السامي. عندما يضطر رأس الدولة، في خطاب العرش الأخير (29 يوليو 2025)، إلى إصدار تعليمات مباشرة لـ”إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة”، فهذا يعني بلغة السياسة الصارمة أن النموذج التنموي الذي أدارته الحكومة والأحزاب قد انهار.

لقد كانت دعوة الملك إلى “الانتقال من المقاربات التقليدية إلى مقاربة التنمية الترابية المندمجة”، وتأكيده على ضرورة “تكريس العدالة المجالية” و**”إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة”، بمثابة صفعة قاسية للحكومة والمنتخبين. هذا الخطاب هو الذي وضع الإطار القاصف لهذه اللقاءات، حيث أكد ضمنياً أن المال العام ضاع، وأن الفوارق تعمقت، وأن الوعود تبخرت تحت إشراف المسؤولين الذين كان يفترض بهم تنزيل الإصلاحات. هذه اللقاءات ليست سوى محاولة لـ”إنقاذ ما يمكن إنقاذه”** بعد أن أثبتت الحكومة والأغلبية فشلها الذريع.

2. العمالات تتحول إلى “غرف صراخ”: الإجماع على البؤس والهشاشة

الاجتماعات التي أشرف عليها الولاة والعمال تحولت إلى “محكمة شعبية” غير رسمية، حيث لم يقدم المشاركون برامج، بل ألقوا بقوائم شكاوى تُعبر عن “الإجماع على البناية الاجتماعية الهشة”. هذه الشكاوى ليست فردية، بل هي تراكم مهين لأزمات هيكلية ظلت تتفاقم بينما كانت النخبة مشغولة بتحقيق أرباحها الخاصة.

  • الصحة والتعليم: تدمير الخدمات العمومية: كانت الصرخة الأعلى هي الانهيار الكلي لخدمات الصحة والتعليم. المواطنون يصرخون من الموت البطيء في المراكز الصحية القروية بسبب غياب الأطباء المتخصصين، ومن إهانة أبنائهم في مدارس تفتقر لأدنى المقومات. هذا يعني أن “الدولة الاجتماعية” التي تروّج لها الحكومة هي مجرد شعار فارغ، وأن الطبقة المتوسطة والفقيرة تُجبر على دفع ثمن فشل الدولة من جيبها وعبر حرمان أبنائها.

  • عزلة العالم القروي: جريمة العزل الممنهج: الشكوى الموحدة من غياب الطرق المعبدة وشبكات النقل العمومي اللائق في الأرياف هي جريمة تنموية بامتياز. الطرق السيئة ليست مجرد مشكلة تقنية، بل هي سياج فعلي للتهميش، يمنع المزارع من تسويق محصوله، ويمنع الشاب من الوصول إلى فرصة عمل، ويُبقي على جزء كبير من الوطن في العصر الحجري بينما تتباهى الحكومة بمشاريعها الكبرى.

  • الماء والشغل: قتل الاستدامة والفرص: أزمة ندرة المياه ليست قضاءً وقدراً، بل هي فشل في التدبير الاستراتيجي والاستباقي للموارد المائية. أما الشكاوى من غياب فرص الشغل وصعوبة الاستثمار للشباب، فتؤكد أن باب الفرص مغلق بإحكام أمام المواهب والكفاءات، ومفتوح فقط أمام “أبناء النفوذ” و**”تكتلات المصالح”** التي تحتكر الصفقات.

3. إهدار الملايير: أين تبخر النموذج التنموي القديم؟

إن هذه اللقاءات التشاورية هي الدليل القاطع على أن المغرب قد خسر الملايير والمليارات من الدراهم في عقود من التنمية السطحية. السؤال الذي لا يرد عليه أحد هو: أين ذهبت كل تلك الميزانيات الضخمة التي خُصصت للمخططات التنموية والقطاعية السابقة؟

  • فشل التنزيل والحكامة: لم يمت النموذج التنموي القديم بفعل الزمن، بل قُتل بفعل الفساد الممنهج وسوء الحكامة. لقد تحولت المشاريع التنموية إلى “مستنقع صفقات عمومية” تفوح منها رائحة التلاعب، حيث تُفصَّل العروض على مقاس الشركات النافذة. هذه الملايير لم تخلق فرص عمل، بل أثرت فئة صغيرة جدًا.

  • التنمية الانتقائية: إن بقاء الأقاليم تشتكي من مشاكل أساسية في الصحة والتعليم والطرق و الماء، يثبت أن التنمية التي نُفذت كانت تنمية انتقائية (انتقائية الواجهات)، تخدم مصالح المركز وتغفل عمداً الأطراف، مما أدى إلى تعميق الفوارق المجالية التي نبه إليها الملك في خطاباته.

إن تخصيص 20 مليار درهم للجيل الجديد من البرامج هو محاولة لإطفاء حريق الملايير السابقة، لكنه يُعد استنزافاً جديداً للمال العام إذا لم يُربط هذا الدعم بآلية محاسبة صارمة وفورية.

4. إدانة الفاعلين: حكومة، برلمان، وجماعات ترابية – ثالوث التهاوي

تتحمل الأطراف السياسية والإدارية المسؤولية المباشرة عن الواقع المؤلم الذي كشفته اللقاءات التشاورية:

أ. الجماعات الترابية المنتخبة: عرقلة التنمية وموت الثقة

المنتخبون المحليون في الجماعات والأقاليم هم نقطة الضعف الأولى. لقد تحولت أغلبية هذه المجالس إلى “دكاكين لتوزيع الامتيازات والمحسوبية”، وليست مؤسسات لإعداد برامج التنمية. إن غياب الكفاءة والفساد الصغير في تدبير الشأن المحلي هو السبب المباشر وراء فشل برامج القرب، وهو ما أدى إلى موت الثقة في أي عملية سياسية تشاركية. إنهم مسؤولون عن تحويل التوجيهات الملكية إلى حبر على ورق على مستوى القواعد.

ب. الحكومة: الهروب من المسؤولية وتكريس الجمود

الحكومة تتحمل المسؤولية السياسية عن هذا الفشل الهيكلي. لقد تعاملت مع الأزمة بعقلية “إدارة الأرباح” لا “إدارة الأمة”. إن سياسات الحكومة، التي أدت إلى تضخم جامح وضرب القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، هي التي غذت الهشاشة التي انفجرت في اللقاءات التشاورية. محاولاتها لـالهروب من المسؤولية عبر إلقاء اللوم على الظروف الخارجية هو تبرير أجوف لفشل في التدبير الاستباقي للماء والاقتصاد.

ج. البرلمان: الرقيب النائم وشاهد الزور

البرلمان، بصفته سلطة الرقابة والتشريع، هو “شاهد الزور” على هذا الانهيار. المعارضة أثبتت أنها “غير قادرة على الدخول في صراع القمة”، وأنها تكتفي بـ**”المناوشات الشكلية”** خوفاً من خسارة نفوذها. أما الأغلبية، فتستغل تفوقها لتمرير القوانين وتبرير السياسات دون محاسبة حقيقية، محولة المؤسسة التشريعية إلى “ختم مطاطي” يغطي على الفشل التنموي.

5. التنمية بسرعتين: تأكيد من الميدان على التشخيص الملكي

 

هذا الواقع المأساوي، الذي فضحته صرخات الأقاليم، يثبت بالدليل القاطع صحة التحليل الملكي الصارم حول “مغرب يسير بسرعتين”. فالتنمية التي تم التبشير بها على مدى عقود لم تكن تنمية شاملة، بل عملية مقصودة لتعميق الفوارق بين مركز غني ومحيط مُهمّش.

  • المسار السريع (للنخبة): لقد أكدت اللقاءات التشاورية أن السرعة الأولى هي سرعة النخبة الإدارية والمالية التي تسيطر على المراكز الحضرية الكبرى، وتحصل على الامتيازات، وتستنزف الملايير في مشاريع لا تعود بالنفع إلا عليها. هذا المسار هو مسار “الثرى الفاحش والسريع” على حساب الوطن.

  • المسار البطيء (للمواطن): أما السرعة الثانية، فهي سرعة التقهقر والجمود التي يعيشها المواطن في العالم القروي والأقاليم الداخلية. مداخلات المتدخلين في هذه اللقاءات جسّدت هذا المسار: الخدمات العمومية (الصحة، التعليم) في حالة انهيار تام، والطرق غير سالكة، والماء الصالح للشرب يصبح حلماً بعيد المنال. هذه الازدواجية المدمرة ليست مجرد نتيجة لسوء تدبير، بل هي خيانة لمبدأ العدالة المجالية، وتكشف بوضوح أن الفشل التنموي كان فشلاً أخلاقياً وسياسياً بامتياز، حيث تم التضحية بالهشاشة الاجتماعية من أجل إثراء الفئة القليلة.

6.  الهدوء الذي يسبق عاصفة الهشاشة

إن الخلاصة التي تخرج بها هذه اللقاءات التشاورية هي أن المغرب يقف اليوم على حافة الهاوية الاجتماعية. لقد أعلنت الشكاوى المدوية أن البنية الاجتماعية هشة للغاية، وأن الفشل في قطاعات مثل الصحة والتعليم والنقل هو دليل على أن كل ما تم ضخه من أموال لم يصل إلى المواطن البسيط.

إن هذه اللقاءات يجب أن تكون صرخة تحذير أخيرة؛ فما لم تُصاحبها محاسبة فورية وعاجلة لكل من أهدر المال العام، ولكل مسؤول فشل في مهامه، فإن الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية لن يكون سوى محاولة فاشلة لترقيع واقع اجتماعي يتأهب للانفجار. إن التوجيه الملكي الصارم هو فرصة أخيرة لإجبار هذه النخبة على مراجعة مسارها قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى