صحة

صدمة الأرقام ونزيف الكفاءات: هل تُجهض “فوضى الموارد البشرية” إصلاح منظومة الصحة في المغرب؟

يعيش قطاع الصحة والحماية الاجتماعية في المغرب على فوهة بركان من الغضب الاجتماعي، الذي يتجاوز حدود المطالب الفئوية ليلامس جوهر الحق في الرعاية الصحية. ورغم الورش الملكي الاستراتيجي لتعميم الحماية الاجتماعية، يواجه القطاع تحدياً بنيوياً قاتلاً يهدد بنسف كل الجهود والإصلاحات: أزمة الموارد البشرية الطبية والتمريضية. هذه الأزمة ليست مجرد نقص عددي، بل هي فوضى في التدبير، ونزيف في الكفاءات، وتواطؤ صامت يخدم مصالح القطاع الخاص على حساب المرفق العمومي.

الأرقام الصادمة: المغرب بعيد عن “مناعة” الكوادر الطبية

للوقوف على حجم الكارثة، يجب الإطلال على المؤشرات الدولية. تشير أحدث التقارير إلى أن المغرب لا يزال بعيداً جداً عن تحقيق “الحد الأدنى” من التغطية الصحية. ففي الوقت الذي توصي فيه منظمة الصحة العالمية بضرورة توفر ما بين 10 إلى 15 طبيباً لكل 10 آلاف نسمة لضمان رعاية صحية مقبولة، نجد أن المغرب لا يتجاوز معدل 4 أطباء لكل 10 آلاف نسمة في القطاع العام (وإجمالي حوالي 7 إلى 8 أطباء لكل 10 آلاف نسمة بين العام والخاص).

هذا الخصاص المهول، الذي تشير التقديرات إلى أنه يتجاوز 32 ألف طبيب و65 ألف ممرض إضافي للاقتراب من المعايير الدولية، يتفاقم بسبب عاملين رئيسيين:

  1. نزيف الهجرة الخارجية: تفقد المملكة سنوياً ما يقرب من 600 إلى 700 طبيب مهاجر نحو الخارج، خاصة أوروبا وكندا، ما يمثل نحو 30% من خريجي كليات الطب الجدد. هؤلاء الأطباء يكلف تكوينهم الدولة مبالغ ضخمة لسنوات طويلة، لتخسرهم المنظومة الصحية فور تخرجهم أو بعد اكتسابهم الخبرة الأولية.
  2. النزوح الداخلي والهجرة الصامتة: وهي الأكثر خطورة، وتتمثل في انتقال الكوادر الطبية من المستشفيات والمراكز الصحية العمومية (خاصة في القرى والمدن الصغيرة) إلى المصحات الخاصة في المدن الكبرى، بحثاً عن ظروف عمل أفضل وأجور مجزية.

الفوضى المُقننة: القطاع العام كـ “نقطة عبور” للمصالح الخاصة

إن المشكلة لا تقتصر على النقص، بل تتعلق بـ سوء تدبير الكوادر الموجودة وفوضى الحضور والغياب، وهو ما يحيل على شبهة “التواطؤ المقنن” لدعم القطاع الخاص.

المثال الحسابي الذي يصف عمل طبيب في قسم تخصصي وظيفته تتطلب ثمانية أطباء، لكنه يلتزم بالحضور يوماً واحداً في الأسبوع (أو أربعة أيام في الشهر)، مقابل تقاضي أجر شهري كامل من خزينة الدولة، هو تجسيد لـ “الفساد الإداري الصارخ” و”السرقة المقنعة” للمال العام. وباقي الأيام، يقضيها هذا الطبيب في القطاع الخاص، الذي بات يستنزف كفاءات القطاع العمومي ويستغله كمصدر دخل ثانوي بل أساسي.

في ظل هذا المشهد، تعيش المستشفيات العمومية حالة من الفوضى، يغيب فيها الطبيب المتخصص، بينما نجد التزاماً نسبياً داخل المراكز الإستشفائية الجامعية من الأساتذة، والأطباء الداخليين والمقيمين، وذلك لضرورة إكمال جدولهم الزمني الدراسي والتدريبي. أما باقي الممرضين والتقنيين، فيشتركون بدورهم في ثقافة “التناوب عن العمل”، مما يحيل المركز الصحي القروي ليصبح “مركزاً صحياً بلا طبيب” على مدار الأسبوع، يتناوب عليه طبيب من المستشفى الإقليمي مرة واحدة شهرياً، فكيف يمكن تأهيل وبناء 1400 مركز صحي بهذه العقلية؟

العلاج الصارم: من الشعارات إلى العقوبات الزجرية و”القانون العسكري”

في مواجهة هذا “النزيف الأخلاقي” قبل المادي، لم تعد الشعارات والوعود الفارغة مجدية. وزارة الصحة والحماية الاجتماعية مطالبة باتخاذ إجراءات جذرية لا تقبل التأجيل:

1. تفعيل العقوبات الزجرية الفورية: يجب تطبيق “قانون عسكري” في ضبط الحضور والانصراف داخل المستشفيات العمومية، ليس بالمعنى الحرفي، بل بمعنى الصرامة والمحاسبة الفورية. إن القسم المهني الذي يؤديه الطبيب والممرض يجب أن يقترن بأخلاق المهنة التي تضع المريض ومصلحة الوطن في المقام الأول. الغرامات، التوقيف عن العمل، وخصم الأجر لمن يتناوب على الحضور بشكل غير شرعي هو إجراء لا مفر منه لإعادة الانضباط.

2. تحسين ظروف العمل والأجور: لا يمكن تطبيق العقاب دون تحفيز. يجب على الوزارة الإسراع بـ الزيادة الجدية في الأجور والتعويضات، التي تخرج عن نطاق “الفتات”، لتوازي المستويات المعمول بها في القطاع الخاص أو دول المهجر، مما يحد من جاذبية الهجرة الخارجية والداخلية.

3. التدخل لسد الخصاص في المدى القريب والمتوسط: يجب اللجوء إلى حلول تكسر طوق الأزمة، مثل:

  • تمديد سن التقاعد للأطباء الراغبين في الاستمرار بعقود جديدة وشروط محفزة.
  • فتح الباب لاستقدام الأطباء الأجانب، خاصة من دول أمريكا اللاتينية أو دول أخرى لديها فائض من الكوادر، وهي خطوة ضرورية لسد الخصاص الفوري.

 القطاع العام… قنينة الغاز الاجتماعية

إن التردي الهيكلي للمرفق العام الصحي ليس مجرد مشكلة إدارية، بل هو “قضية وطنية”. إن المستشفى العمومي هو “قنينة الغاز الاجتماعية”؛ فإذا أقرّت الحكومة زيادات مبالغاً فيها في أسعار الخدمات الصحية (نتيجة لضعف أو انهيار القطاع العام)، أو إذا وصل المواطن إلى مرحلة اليأس من الحصول على أبسط حقوقه الصحية، فإن الوضع الاجتماعي سينفجر لا محالة.

إن تنزيل منظومة الصحة الجديدة، التي دعا إليها جلالة الملك، يتطلب إرادة سياسية حقيقية تتجاوز الوزير والحكومة، لتصل إلى الأطر الطبية نفسها. وإذا استمرت هذه الفوضى، واستمر “التناوب” عن العمل لصالح القطاع الخاص، فإننا سنعتبر أن الجميع متواطئ في إغلاق المرفق العمومي وتدعيم القطاع الخاص، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى ضياع فرصة تاريخية لإصلاح جوهري لا يمكن للمغرب تحمّل تبعات فشله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى