ملف الاحد :إلى أين يسير التطور الاجتماعي بالمغرب؟

ماهي مظاهر التطور الاجتماعي بالمغرب؟ ماهي الحقائق التي يقوم عليها؟ والعوامل التي تتحكم في بعثه وتوجيهه؟ وما طبيعة المشاكل والقضايا التي يثيرها ذلك؟ كيف يمكن اجتناب التناقضات التي تثار في هذا الشأن؟ وما حظ المغرب في هذا المضمار؟
التحول الاجتماعي العام في المغرب، ظاهرة أساسية واضحة، نلمس آثارها في مختلف جوانب حياتنا الوطنية المعاصرة، وذلك بشكل واسع ليس هناك مجال بنكران أهميته وعمق مدلولاته، ومن غير شك، فإن الظروف العامة التي تحيط بهذا التحول، والعوامل التي تتحكم في خلقه وتوجيهه، والنتائج المنبثقة عنه في الأمد القريب والبعيد، كل ذلك يجب أن يعطي له صيغة جذرية مثيرة، ويساعد على تقديره حق قدره، كأبرز ما يتميز به تاريخ المغرب الحديث. والمظاهر التي يتمثل فيها واقع التطور المغربي الحاضر، هي من التكاثر والتعدد بدرجة كبيرة وملحوظة، وتمتد ـ كما رأينا ـ على مختلف مناحي الحياة الشعبية والخاصة، سواء في هذا القطاع أو ذاك من قطاعات البلاد المختلفة، أو هذه الجماعة أو تلك من عناصر المجتمع المغربي الراهن.
ومن الجائز أن نبلور هذه المظاهر من التحول الاجتماعي المغربي ونركزها في صورتين رئيسيتين :
1) تطور الأوضاع الطبقية القديمة وبروز الكثير من حالات التغير الجذري العميق في هذا الميدان.
2) ازدياد عوامل الوعي الفكري الاجتماعي، وتأثير كل ذلك على مستوى الحياة العامة بالمغرب، ففي نطاق الحقيقة الأولى نلاحظ جملة من الظواهر الاجتماعية الهامة لم تزل تتوارد باستمرار، على صعيد الحياة العامة بهذا البلد، فالمجتمع الزراعي المغربي قد أخذ يطل على دنيا جديدة من التصنيع والتجهيز، وبدأ ـ بالنتيجة لذلك ـ قسم هام من هذا المجتمع يتحول إلى طبقة اجتماعية جديدة، قوامها العمال والمهنيون الصناعيون، وفي ذات الوقت تجتاح موجة كاسحة أخرى بقايا التقاليد الزراعية الأولى في عدد محدود من المناطق، حيث بدأت الآلية والتقنية تسيطر بالتدريج على مناهج الإنتاج الفلاحي عند هؤلاء أو أولئك، وبدأت تتكون معها عناصر عقلية جديدة، أكثر إيجابية وتحررية، وبقدر ما بدأت عوامل التحول هكذا تمارس تأثيراتها على بعض مجالات الحياة في القرى والأرياف، بقدر ما يشتد تأثير هذه العوامل أيضا على حياة السكان بالمدن والعواصم الكبرى التي تزداد اكتظاظا بالسكان، نتيجة ارتفاع نسبة الولادات والهجرة الريفية المتواصلة، أما النتائج المنبثقة عن ذلك، فتبدو في مظاهر عدة وأساسية، من بينها ما يتمثل في اتجاه الأرستوقراطية التقليدية، إلى محاولة التلاؤم مع طراز المدنية الحديثة اندفاعا وتحولا، وما يبدو كذلك من نزوع البورجوازية القديمة إلى الانفصال عن كثير من المفاهيم والمعقولات التي كانت ذات أساس فعال في مجال حياتها العامة، وأكثر من ذلك كله وأهم : ازدياد الاحتكاك بين عموم الجماهير الشعبية من جهة، وبين مكيفات العقلية الاجتماعية الحديثة من جهة أخرى، الأمر الذي يساهم بدون انقطاع في تعديل مناهج الحياة الاجتماعية بالحواضر المختلفة. ويكاد يؤدي في الأمد الطويل إلى تغيير هذه المناهج، وتطويرها تطويرا جذريا حاسما.
أما في إطار الحقيقة الثانية، حقيقة الوعي الشعبي المتزايد باستمرار، فإنه من الميسور للمراقب أن يلاحظ في هذا الشأن كثيرا من المظاهر الهامة التي لها دلالتها في الموضوع ومن بين هذه المظاهر ما يتصل بازدياد النزوع إلى التطور الطبقي ـ الاجتماعي عن طريق التعلم، واكتساب المعرفة، وذلك ما يتبين لنا من ظاهرة الإقبال الشديد على المدارس والمعاهد المختلفة، هذا الإقبال الذي ما فتئ يرتفع بعد الاستقلال، ويتصاعد تصاعدا مثيرا ومعجبا، ومن هذه المظاهر أيضا ما يتمثل في ارتكاز الوعي الصحي بين الطبقات الشعبية، واشتداد الميل عند الفرد إلى مراقبة التطورات المرضية التي قد تقع له، بل واتخاذ الاحتياطات الوقائية، من سلبية وإيجابية ـ المتعلقة بكل ذلك مما يقتضيه المقام، هذا إلى مزيد من التأثر بالأفكار الاجتماعية الليبرالية المتصلة بمستوى العيش، والضمان المتبادل، وحقوق المواطنة، والواجبات المترتبة عنها وغير ذلك مما له صلة بوضعية الفرد والأسرة داخل أي مجتمع حديث ناهض ومتطور، وبالطبع فإن هذه الظاهرة لا تشكل بالذات حقيقة تطور حاسم، متكامل العناصر والنتائج بصورة كافية، ولكنها تعكس ـ على أي حال ـ واقعا اجتماعيا متحولا له ـ كما ذكرنا ـ أهميته وخطره في المدى البعيد والقريب، ولكن إلى أين يتجه هذا التطور الذي تتحكم فيه ولاشك حتمية التاريخ، وتفاعلات الحياة العالمية الحاضرة، واستعدادات المجتمع المغربي الطبيعية؟. وفي هذا المجال يكون علينا أن نتساءل من جانب آخر: هل لحركات التطور دائما من هدف نهائي وحاسم، تقصد إليه وتتوقف عنده؟ بالطبع لا، فالتطور تطور، ولا يمكن أن يتجمد على حالة معينة، مهما كانت المقتضيات التي توجب ذلك، ولهذا فإنه لا يبدو من الطبيعي أن تكون هناك حدود تتضاءل عندها دينامية التطور، أو يعتبر بالنسبة إليها قد استنفذ طاقاته واندفاعاته، لكن هناك مع ذلك مراحل وأشواطا تجتازها حركة التحول عند الأمم الناشئة المتطورة، بل إن هناك أيضا أهدافا قريبة وبعيدة، تتبناها الأمم من هذا النوع، وتتوخى الوصول إليها ـ ولو أن هذه الأهداف لا يجوز أن تعتبر ـ في أي حال ـ أهدافا نهائية يصبح التجمد بعدها شيئا ممكنا ومعقولا، وغني عن البيان أن الأهداف ذات المدى البعيد هي بالضرورة أهداف كبيرة وعملاقة ليس التوصل إليها ـ بصورة حقيقية ـ شيئا بسيطا وميسور المنال، والحالات التي تتوخى من هذه الأهداف هي ـ في الغالب ـ حالات مثالية متسامية، تنصب في مجموعها على محاولة تكوين المجتمع الصالح، الذي لا يجد فيه المرء مجالا للخوف من جهل أو فقر أو مرض، وتتوافر فيه الفرص المتكافئة للكل، في ظلال من روح الإنسانية والأخوة والسلام، وفي نطاق المحبة والتضامن والتكافل، أما الأهداف القريبة الآنية فهي هذه التي تقتفيها الأمم، كل الأمم للتوصل إلى تحقيق حالات مثالية من هذا القبيل، إنها تتمثل في الحركات الاجتماعية المتتالية، المتركزة على مبدأ التجديد والنمو، والمتبلور في مظاهر تطورية مختلفة، كالتي تتراءى من خلال الواقع الاجتماعي الذي نعيشه وفي نطاق ذلك، فإن عوامل التطور ـ على العموم ـ تتداخل في بعضها البعض، وتتفاعل تفاعلا مستمرا، يبدو ـ أحيانا ـ على درجة من التشابك والتعقيد، فالتحول الاجتماعي يتخذ في كثير من الحالات، صورة تطور فكري ومعيشي وسلوكي وغيره، على اختلاف النسب والمستويات، وعلى هذا فإن لارتفاع المستوى التعليمي والاقتصادي صلة كبيرة بحالات التقدم الاجتماعي في بعض الصور على الأقل، كما أن هذا التقدم الاجتماعي نفسه، يؤدي في الغالب الأعم، إلى كثير من الإقبال على موارد التطور الفكري الذي هو أقل الجوانب بروزا في هذا البلد، ولا يعنينا ـ في هذا المضمار ـ تتبع ظاهرة التخلف الفكري عندنا وتأخرها عن مجالات التطور المجتمعي والاقتصادي في وضعنا الراهن، فقد استلفتت هذه الظاهرة الكثير من اهتمام الباحثين من قبل، ـ وكان لها دائما من استقصاءاتهم وتمحيصاتهم الشيء الكثير، إلا أن الذي يهمنا الآن في هذا الموطن هو النظر خاصة في اتجاهات التطور الاجتماعي بالمغرب، وما يخلقه ذلك من مسائل وقضايا غير بسيطة، سواء على الصعيد المبدئي البحت، أو من حيث الواقع القائم بالفعل.
فقد انقضى وقت غير قصير، منذ أن بدأ مجتمعنا التقليدي يطل بالفعل على آفاق الحياة الدينامية المعاصرة، ويرتبط بمعطياتها ارتباطا يمتد أحيانا ويضعف أخرى بحسب الصور والحالات، ويوجد البلد الآن ـ وهو يكاد يكون ـ باعتبار كثير من المظاهر المائلة ـ يكاد يكون من بين دول العالم الثالث الأكثر تطورا من الناحية الاقتصادية والتجهيزية والاجتماعية أيضا، غير أن هناك ـ في مجال التعرض لهذه الحقائق ـ أساسا صحيحا لملاحظة بعض الظواهر العامة التي تثير الاهتمام وتدعو المرء إلى استعراض بعض التساؤلات في الموضوع، وعلى ذلك، فما هي العوامل العامة التي تتحكم في سير التطور الاجتماعي عندنا بهذا البلد؟ ثم ما هي النتائج الكبرى التي يمكن أن يؤدي إليها هذا التطور؟ وماذا يجب أن يكون عليه الأمر في هذا المجال ـ وذلك على ضوء المثاليات المبدئية التي ندين لها، ولا نتأخر عن تأكيدها في جميع الظروف والمناسبات.
إن الحقيقة الأساسية في هذا الصدد ـ هي أن التطورات المتلاحقة التي يعرفها مجتمعنا المعاصر هذه التطورات تخضع ـ كغيرها من مختلف الظواهر الاجتماعية في العالم ـ لجملة من المؤثرات العامة والخاصة، التي تختلف عن بعضها البعض، من حيث الأهمية والمفعول، وهذه المؤثرات تعود ـ في الدرجة الأولى ـ كما قدمنا ـ إلى التضافر الحاصل منذ عقود من السنين ـ بين استعداداتنا الفطرية والذاتية وبين تيارات التحول العام الشامل الذي ما انفك يجتاح مختلف أرجاء العالم، على أن هناك ـ من جانب آخر ـ حقيقة أساسية وملحوظة لها أكثر من اعتبار في هذا المقام، وهي أن التفاعل هذا بين استعداداتنا ووجهاتنا الطبيعية من ناحية، وبين واقع العالم الحديث من ناحية أخرى.. هذا المجال المتهيئ من التفاعل والحاصل بالطبع على صور مختلفة وواسعة مما نعيشه الآن.. لم يكن له ـ مع ذلك ـ ليؤثر كل هذا التأثير الراديكالي على صورة حياتنا العامة الحالية لو لم تكن هناك « مستفزات » أخرى هامة ـ ولو أنها فرعية ـ لم تفتأ تحدث الكثير من التأثيرات في هذا المجال، ومن بين هذه « المستفزات » مثلا قيام حالات خاصة من التنبه وتركز الوعي، ناشئة في عمومها عن ظروف الحرب العالمية الثانية، والاتصالات الإنسانية الواسعة التي حتمتها ملابساب هذه الحرب، والانجرافات الفكرية العالمية التي كان من اللازم أن تحدثها على نحو آخر، ومن بين « المستفزات » كذلك ظهور بعض الإصلاحيين التطوريين في فترة « اتجاه » حاسمة وأساسية من تاريخ البلد ونجاحهم في اصطناع ظروف معينة لتسهيل بل وتعزيز اندفاعية التحول الحتمي، ثم توافر كثير من الإمكانيات لهم لتحقيق قدر من التجاوب والتصادي في هذا المضمار نطاق مع عموم الجماهير والكتل الشعبية، وذلك ضمن نطاق يتضاءل تارة ويتسع أخرى، وفي مجالات تتراوح بن السطحية التامة والنسبية، وبين العمق والتركيز على مستويات مختلفة وحسب الأحوال والمقتضيات والاستعداد ويتصل بكل هذا، ما كان حاصلا دائما في الأذهان من ارتباط جذري بين مفهوم التحرر القومي من جهة، والتطور الاجتماعي عند عموم الشعب من جهة أخرى الأمر الذي كان من نتائجه الملحوظة أن شاعت الحركة الوطنية ـ وخاصة منذ تطورها الحاسم أواخر سنة 1943 ـ عاشت عددا من التجارب التطويرية الأساسية المتلاحقة ـ سواء في نطاق التوجيه الفكري أو الاجتماعي أو غيره، مما يمكن أن يعتبر نواة حقيقية لثورتنا التطورية التي نجتازها الآن، وهناك غير هذا وذاك من المؤثرات المختلفة التي حدث كثيرا أن كان لها سهم فعال في إيقاظ بوادر التحول العام في وضعنا الاجتماعي الحديث ـ وإن كان من غير السهل ـ حقا ـ تحديد نسبة الفاعلية في عموم هذه المؤثرات، وقياس درجات أهميتها المتفاوتة في هذا المجال وذلك بصورة دقيقة ومضبوطة جدا.
وعلى أي فإننا نوجد الآن بالفعل، في خضم تجربتنا الجوهرية الحيوية: تجربتنا التطورية الاستقلالية التي نحياها اليوم جميعا، والتي هي ـ بالبداهة ـ على مستوى عال من التشعب والتعقيد في مختلف الميادين، والتجربة الاستقلالية هذه ـ تمتد ـ طبعا ـ على آفاق عديدة ومترامية، والصبغة التي تكتسيها بصورة واسعة ـ لا يمكن أن تقارن ـ مطلقا ـ مع جملة التجارب والمحاولات التطورية القديمة الواقعة قبل سنة 1955 تلك المحاولات التي كانت تبلور واقع طموحنا، ومدى إحساسنا بقيمة الإيجابية الهادفة، وعمق نزوعاتنا إلى التكيف والتلاؤم، ولكنها ـ مع ذلك ـ لم تكن تحملنا من المسؤولية التاريخية والعلمية ما نتحمله الآن، ولم تكن تتغلغل أساسيا في تحديد مواقفنا الحاسمة بمثل ما تحدثه في الوقت الحاضر، انه لا مجال إذن للمقارنة بين مجرد حالات الشوق إلى التطور، وبذل بعض المحاولات المقيدة المحدودة في هذا السبيل، وتحقيق بعض النجاحات الأولية في ذلك، ولكن بصورة غير ملزمة قابلة للتجاوز عنها عند الخطأ أو الفشل ـ وهذا واقع الحال قبل سنة 1955 ـ لا مجال للمقارنة بين ذلك وبين ما نلتزم به الآن ـ وبصورة حيوية ـ نحو مبدأ التطوير التحرري المستقبل، وتقيدنا بالخطط والمناهج التي نتخذها في هذا الشأن، وتحكم ذلك في تحديد أوضاعنا واتجاهنا، ومقدراتنا الإيجابية أو مزالقنا السلبية وذلك لأمد طويل، وربما لأجيال عديدة مقبلة، الأمر الذي يضفي قدرا من خطورة الشأن على أساليب عملنا الحاضر، ويذهب بتصرفاتنا، ومواطن نجاحنا أو إخفاقنا الراهنة، يذهب بذلك في الأهمية إلى مدى جد بعيد.
وعلى العموم ـ وبالنظر لطبيعة الأوضاع التي تكتنف تطوراتنا المرحلية الحاضرة، فإن هناك ظاهرة مهمة، يمكن أن تلاحظ في هذا المضمار، وبكل بساطة ويسر، والظاهرة هذه تتمثل في ظهور بعض بوادر الاحتكاك الإيديولوجي الاجتماعي ـ ضمن نطاق تطورنا الحاسم في عهد الاستقلال ـ ومنذ بداية هذا العهد بالذات ثم امتزاج ذلك بتعقيدات السياسة والاتجاهات السياسية، والمتأثر بهذه النظرة أو تلك أو هذا المذهب أو ذاك، على أنه ـ بالرغم عن بعض الظواهر السطحية ـ فإننا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع جديا أن نرى من خلال الاحتكاك الفكري الاجتماعي الموجود ما يؤذن بإمكانية وقوع حالات صراعية حقيقية على الصعيد الاجتماعي المغربي، أو ما يساعد على الجزم بأن احتمالات التصادم القاسي في هذا المجال هي احتمالات يقينية محتومة، فهناك الكثير من الاعتبارات والحقائق لا تبيح الاعتقاد في حتمية نشوء أحوال من هذا القبيل ـ على الرغم من إن ذلك قد حصل كثيرا ولا يزال يحصل باستمرار في عدد من الأقطار الأخرى بالعالم، غير أنه من جانب آخر ـ ومع تقدير إمكانيات التعايش بين اندفاعات التطور واعتبارات السلام في مجتمعنا، إلا أن ذلك لا يمكن أن يحول دون توسع الاحتكاك الفكري الاجتماعي بالمغرب، وتطور الأسس العقائدية ـ في نطاقها البسيط أو المعقد ـ التي ينهض عليها التحول الاجتماعي بمجموعه وتلك مسلمة ليس من داع إلى الجدال فيها، لأنها تشكل مظهرا واضحا من مظاهر الحياة الواقعية التي نحياها، ونؤثر فيها، ونتأثر بها على مختلف الدرجات والمستويات على أنه إذا كانت دواعي التطور تترى هكذا ـ وبصورة جذرية ـ ودون أن يكون هناك من ضرورة لأن تصحبها ـ بحمد الله ـ جملة الملابسات التشاحنية والمظاهر التصادمية التي ترافق عادة كثيرا من الحالات من هذا القبيل ـ إذا كان الأمر بهذه الحقائق، فإنه ليس لنا إلا أن نقدر ذلك، ونعتبر على أساسه الصحيح أي بما يعكسه من وجود بعض الإمكانيات الإيجابية عند مجتمعنا سواء على الصعيد الفكري أو الوجداني، أو ما يتصل بذلك، وهذه الإمكانيات المتمثلة في توافر الرصيد الروحي عند مجتمع من المجتمعات وتأثير ذلك في أضعاف قابلية التأثر بالعوامل السلبية العقيمة عنده، كالتصارع الانتقامي، والتحيز الطبقي الأعمى، وما إلى ذلك ـ أن مثل هذه الإمكانيات تساعد في كثير من الحالات، على تلاقي حدوث توترات اجتماعية حادة، من هذا النوع إلا أنها لا تستطيع بتاتا ـ بالطبع ـ أن تغني ـ عن خطوات الإصلاح والتطوير، الهادفة إلى إقصاء هذه التوترات وتصفية دواعيها من القاعدة، ولكل ذلك كانت الإمكانيات المعنوية غير كافية بمفردها لأي مجتمع لكي يستطيع الاحتفاظ بتوازنه السلمي لأمد طويل، فالتطور الاجتماعي المادي سيبقى دائما وسيلة أساسية وضرورية في هذا المجال، إلا أن توافر المقومات المعنوية بصورة فعالة، يعين بدوره على تركيز مضمون السلام في هذا التطور، و« يميع » عناصر التصلب الذي قد يرافقه و « يتمظهر» به، ويلطف بذلك من حدة الاحتكاكات بل والتصادمات التي قد يقتضيها كل ذلك، على صورة من الصور، وهذا شيء ليس من سبيل إلى تجاهل أهميته واعتباره.
ولنا أن نتساءل من جديد : ماذا يمكن أن تكون عليه النتائج الكبرى التي من الطبيعي أن يؤدي إليها التطور الحاصل؟ وكيف يجب أن تكون هذه النتائج باعتبار ما لدينا من قيم ومثل نحرص على الاستمساك بها في جميع الظروف والحالات؟
إن نظرة بسيطة على واقع الأحوال التطورية الحاضرة، تدل بكل بساطة على أن ثمة اتجاهات قوية كاسحة تقودنا ـ كما تقود غيرنا من جميع أمم العالم ـ إلى الارتماء بين أحضان التقنية والتخطيط والتقنين والتصنيف سواء في نطاق الحياة الإنتاجية أو التوزيعية، أو الاستهلاكية أو التقديرية، وسواء أيضا فيما يتصل بعوامل نمو المجتمع، ومظاهر حياة الأفراد أو الطبقات، وتقلبات أحوالهم وتصاريف أمورهم، سواء على هذا الصعيد أو ذاك أو بالاستناد إلى هذه القاعدة أو تلك، وغني عن البيان أن مجموع الظواهر الماثلة ـ بهذا الصدد ـ تتلاقى جميعها لتؤكد بوضوح، أن التطور الاجتماعي في بلادنا قد غدا مرتبطا أكثر فأكثر ـ وعلى درجات تقوى أو تضعف ـ بعوامل العصرية والتجديد الذي تتميز به مفاهيم المدنية الحاضرة، وهذه حقيقة هامة من المعقول أن تبعث أي شخص على التفاؤل وتوحي ـ مبدئيا ـ بمشاعر إيجابية حافزة سواء على أساس اعتبار أو آخر، غير أن هناك ـ إلى جانب هذه المعطيات التي تتصل بالموضوع ـ هناك حقيقة بسيطة، بل بديهية وهي أننا ننتسب ـ كما هو معروف ـ إلى مرحلة حضارية إنسانية من أعرق ما عرفه الإنسان من حضارات، ومن أوسعها أصالة وتقدمية وإبداعا، ووجودنا متميزين بهذه الصفة الأساسية البارزة، اعتبارنا بمقتضاها كعامل إيجابي وتقدمي في موكب التطور الإنساني خلال مراحله القديمة، كل ذلك من شأنه أن يضع على كواهلنا عددا كبيرا من الالتزامات هذه، تعود إلينا على درجة واحدة سواء فيما يتصل بواجبنا نحو أنفسنا بالذات، أو فيما له علاقة بواجباتنا نحو الآخرين في العالم، فنحن مسؤولون عن هذا الهيكل الحضاري الضخم الذي أقمناه من قبل، والذي يقتضينا الحال مراجعته من جديد، واستقصاء عناصر الإيجابية الإنسانية في مكامنه، ومحاولة الإسهام في تقدم العالم عن طريق العمل على تطوير هذه العناصر، والاستفادة منها في توسيع نطاق الثروة الحضارية الراهنة، ونحن مسؤولون أيضا عن اتجاهات الموقف التاريخي الحاسم الذي نقفه الآن، وننغمر على أساسه في مجال التفاعل مع العالم، والتجاوب مع مقتضيات الحياة الحديثة، ومسؤولون كذلك عن دورنا في العمل على تلافي المحذورات الأخلاقية والروحية التي تزخر بها هذه الحياة بكل ما لها من جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية ونفسانية وغيرها.
نحن مسؤولون إذن، وعلى أعلى مستوى تبلغه المسؤولية عند أمة من الأمم، التي تطمح لأن تصبح أمة طلائعية رائدة، وخاصة في عالم كعالمنا المعاصر، تنزع فيه الدول والتكتلات الدولية المختلفة، إلى أن يصبح كل منها في مستوى الطليعة الرائدة، وهذا ما يضفي على ثورتنا التطورية الحالية، أهميتها البالغة الملحوظة، ويربط بين نزوعنا التطوري هذا، وبين ما يقتضيه الواجب من أحياء لقيمنا الحضارية التليدة، وتوسيع لمدى فاعلية هذه القيم : وتركيز أساسات لها في خضم العصر النووي هذا الذي نعيشه، على أن القضية التي تبقى ـ على أي حال ـ قائمة في هذا المضمار هي على الأخص قضية الجانب الإنساني من ثورتنا التطورية الحالية.. هذا الجانب الذي لا يقاس بالطبع بالجوانب الأخرى من آلية وإنتاجية وغيرها.. لأنه أشد منها تشعبا وتعقيدا، ولأنه يفوقها من حيث ما يحمله من التزامات حاسمة سواء على الصعيد التاريخي، أو غيره، ولأنه أخيرا يستقطب كل ما عداه من هذه الجوانب الأخرى ويجعلها تدور حول محوره وتنصب في بؤرته بصورة مركز، والجانب الإنساني هذا يتمثل في مشكلة التوفيق بين تطور الفرد أو الجماعة عن طريق التداخل في منهج الحياة عند هذا أو أولئك ومحاولة تعديل الصورة الخارجية لهذه الحياة، بما يدخل في نطاق ذلك من مؤثرات فكرية أو آلية أو تنظيمية أو غيرها، التوفيق بين كل هذا وبين ما يقتضيه الحال من حفاظ على المقومات الإنسانية الأصيلة، واستمساك بقيم أو مأثورات قديمة ولكن عظيمة القدر ذات أساس تقدمي صحيح إلى غير هذا وذاك مما يتصل بأوجه التناقض الممكنة أحيانا بين طفرة التطور الحاضر، والارتباط بالماضي في أعمق موروثاته أصالة وإيجابية وإنسانية والأزمة العالمية الحاضرة تعود في بعض اعتباراتها إلى تأثير هذه القضية بالذات، قضية الإنسان وانفعالاته بالتطور العالمي الراهن، والمشاكل النفسانية والفكرية والتاريخية التي تخلقها طبيعة هذا التطور واتجاهه على وجه من الوجوه، غير أنه من اللازم أن نلاحظ بأن وجه المشكلة على هذا النحو يبدو على أكثر ما يكون حدة واشتداد خاصة بالنسبة إلى الأقطار المتقدمة التي ترتاد آفاق التطور العام في عالمنا المعاصر، أما في الأقطار المتخلفة فإن المشكلة ـ على صعيدها ـ تبدو ـ بهذا الصدد ـ على وجه يختلف في بعض السمات واللمحات وتتجلى القضية على هذا الأساس ـ في تأثر الحضارات القديمة الخاصة بهذه الأقطار، وكسوف مظاهرها بالتدريج أمام الانطلاقات الإشعاعية الباهرة للمدنية الحديثة، وقد أثارت هذه الظاهرة بالفعل ـ وما يرتبط بها من آفاق واحتمالات ـ أثارت ـ في مناسبات عدة كثيرا من الجدل وتعددت الآراء حولها ووجهات النظر في موضوعها تبعا لتعدد المشارب الفكرية واختلافها، إلا أن هناك إحساسا قويا ـ يعم بعض رجال الفكر الأوربي أنفسهم ـ بأن هذا النوع من التطور الاجتماعي الإنساني الذي يكاد يوحد بين مختلف صور الحياة وأساليبها وألوانها وأوجه التصرف فيها عند مختلف الشعوب والأمم، ويكاد يؤدي ـ بالتالي إلى إذابة المظاهر الاجتماعية المنبثقة عن الحضارات العريقة بالعالم وصهر كل ذلك في بوتقة المدنية الحالية، أن هناك شعورا حقيقيا بأن مثل هذه الظواهر، ليس من شأنها فيما إذا اتسع نطاقها بصورة كبيرة جدا أن تساهم في إنماء التراث الإنساني العام، أو تمده بمزيد من عناصر الوفر والثراء، بل أن الأمر على العكس من ذلك يؤدي حتميا إلى نوع من الاختزال للجهود الإبداعية التي حققها الإنسان على مر الدهور، ويعين على تقليص أفق الحياة العالمية، في مستواها الحضاري بمفهومه الواسع المتنوع.
ويتميز المغرب ـ في هذا المضمار بأنه لا يزال يعتبر ـ إلى حد ما ـ من بين الأقطار التي لم تستطع موجات التطور العالمي الراهن، أن تعفي على الجوانب الإيجابية في كيانه الحضاري القديم، على أن التطور الاجتماعي عندنا كما في أغلبية الأقطار العربية والإسلامية يسير سيرا ديناميا كاسحا، وعلى مختلف الأبعاد والمستويات، ومن غير شك فإن التزام المحافظة المتشددة من شأنها أن تتسبب أحيانا في إعاقة مثل هذه الحالات من التطور الراديكالي الحاسم، كما أن التحررية المجردة، بكل ما تقتضيه من تخفف من موروثات الماضي وتزود بمآثر الحاضر، والتزام أكثر لآفاق المستقبل مثل هذه التحررية يمكن أن تؤدي ـ بالتالي ـ إلى حالات تفقد معها قوة المحافظة كل فاعليتها الأساسية، ويفضي الأمر بالتالي إلى نوع من الانفصام الحاد عن مظاهر الماضي بما فيها من إيجابية ومؤثراته ومثالياته، بما لها من قيمة وعظيم شأن، وهذا وجه أساسي من وجوه المشكلة ـ كما يجابهها كل مجتمع نام يرتبط بالماضي بأوثق الصلات الحضارية العتيقة وتحذوه في نفس الوقت بواعث التطور المشروع الحافز إلى الاندماج في كيان الحاضر، على قواعد جوهرية وجد عميقة، وإذا كنا قد ركزنا النظر ـ في هذا الحديث ـ حول الحياة الاجتماعية، واعتبرنا الموضوع يتعلق بالجانب الاجتماعي من حركة التطور الحديثة بالمغرب، فذلك لأن هذا التطور ـ وإن كان يتصل بكل جوانب الحياة التي يرتبط بها الفرد أو المجموع سواء منها ما كان علميا أو تقنيا أو تطبيقيا أو فلسفيا أيضا ـ إن كان هذا التطور يتصل بكل هذه الجوانب ـ فإنه في نفس الوقت يستقطبها كلها جميعا حيث تتبلور نتائجها في مجال أساسي واحد : المجال الاجتماعي الإنساني الذي يمكن أن نعده ـ في هذا المضمار مرآة حقيقية لكل الأحوال التي يمكن ملاحظتها ضمن نطاق هذا الاعتبار.
والميزة القصوى التي تتوافر لشعب من الشعوب في هذا المجال ـ يجب أن تساعده ـ بصورة رئيسية على النجاح في التوفيق بين هذه المتناقضات العارضة، وذلك في أطار عقلاني سليم تتلاءم فيه الاعتبارات المختلفة تلاؤما إيجابيا مثمرا، وتسير فيه حركة التطور متجذرة أصولها في أعماق الماضي والحاضر على السواء، ومستمدة من روح المحافظة المستنيرة، والتحررية الهادفة والخلق التقدمي البناء.
إن القضية إذن ـ على هذا الأساس ـ ليست قضية محافظة أو تقدمية، يمينية أو سارية، بقدر ما هي ـ في نطاق أشمل وأهم، قضية تحكم في بواعث التطور ونتائجه، والتزام للمثاليات الأساسية التي يجب أن تكون حافزا له، واستمساك بمبدأ التوفيق بين مواطن التضارب والتناقض في أصوله ومظاهره، وارتباط بالإنسان على امتداد اتجاهاته إلى حياة أفضل في إطار التكافؤ والتعايش.
ومن اليسير ملاحظة الظاهر القائمة عندنا، والتي يمكن أن تتضافر بمجموعها على التأكيد بأن خطوات المغرب التطورية الاجتماعية الراهنة، تلتقي مع كثير من الاعتبارات من هذا القبيل، إلا أنه سيبقى من الضروري دائما لأية اتجاهات تطورية حاسمة ـ على الصعيد الاجتماعي ـ من مثل ما يشاهده المغرب وغيره من الأقطار النامية ـ من الضروري لمثل هذه الحركات أن تندمج بصورة أعمق في محيط الالتزامات التي تخط لها حدود السير ومداه، وذلك كلما ازدادت نموا واتساعا وتوغلا، وهذه حقيقة بديهية واضحة، ولعلها من البساطة بمكان كبير، ولكن لها ـ مع ذلك ـ من الأهمية ـ في هذا المجال ـ قدرا عظيما وغير محدود.