تقرير وسيط المملكة: تراكمات إدارية تعرقل الحكامة وتُعمّق أزمة الثقة

يكشف التقرير السنوي لمؤسسة وسيط المملكة برسم سنة 2024 عن واقع إداري مقلق، ما يزال يعكس هشاشة عميقة في بنية الحكامة العمومية، رغم جهود الدولة المتواصلة لتجويد الخدمات وتقريب الإدارة من المواطن. فقد استمر المواطنون في تقديم آلاف التظلمات التي تُعري عن اختلالات متكررة، من تعقيد المساطر إلى تعثر تنفيذ الأحكام، في مشهد لا ينسجم مع الخطاب الرسمي حول دولة القانون والمؤسسات.
المرتفق المغربي يجد نفسه في مواجهة مرفق إداري بطيء، ثقيل الحركة، وغير متفاعل في كثير من الأحيان. تأخر الإجراءات وتعقيدها لا يزالا يمثلان أبرز مصادر السخط الشعبي، خاصة حين تُواجه الفئات الهشة بجدران صامتة من البيروقراطية وانعدام الشفافية. وبدل أن تتحول الرقمنة إلى رافعة للتبسيط، فإن بعض الإدارات لا تزال حبيسة منطق الورق والطابع، في زمن تُخاض فيه معارك الدولة من أجل التحديث والمردودية.
أما على مستوى العدالة، فإن الأدهى هو تعثر تنفيذ الأحكام القضائية النهائية ضد الإدارات العمومية والجماعات الترابية، بدعوى غياب الاعتمادات أو تعقيد المساطر، ما يحرم المواطنين من ثمرة التقاضي ويحوّل القضاء إلى مجرّد إجراء شكلي دون أثر فعلي. وهو ما يمس في العمق مبدأ سيادة القانون، ويضع علامات استفهام حول قدرة الدولة على احترام قرارات أجهزتها القضائية.
المعطيات التي رصدتها المؤسسة تكشف أيضاً عن أعطاب تمس الحق في الملكية، من نزع عقارات دون تعويض إلى وضع اليد خارج الضوابط القانونية، ما يفرز شعوراً بالغبن ويُضعف الثقة في الضمانات الدستورية لحماية الأملاك الخاصة. ويبدو أن غياب التنسيق بين الإدارات، إلى جانب غموض بعض المساطر القانونية، يُعمق هذه الإشكالات بدل حلها.
الحق في الحصول على المعلومة، رغم التنصيص عليه دستورياً، لا يزال يُمارس بمنطق انتقائي، حيث تم رصد امتناع إدارات عن الرد على الطلبات، أو اتخاذ مواقف ضمنية بالرفض دون تعليل، وهو ما يتعارض مع مبدأ الشفافية وحق المواطن في الفهم والمتابعة والمساءلة. فبعض الإدارات تكتفي بقرارات مبهمة لا تُفصح عن أسبابها، في مشهد يعيد إنتاج أزمة العلاقة بين المواطن والمؤسسات.
في المقابل، لا تُخفى الجهود الميدانية التي تبذلها وزارة الداخلية لتصحيح هذا المسار، من خلال توجيهات متكررة لتسريع تنفيذ الأحكام وتعزيز الشفافية وتبسيط المساطر. غير أن التحولات المنشودة تصطدم بعقلية إدارية راكدة، وثقافة تدبيرية ما تزال تُقاوم منطق الإصلاح، وتُفرمل كل ما من شأنه إعادة بناء جسور الثقة بين الإدارة والمواطن.
وفي السياق البيئي، يكشف التقرير عن اختلالات إضافية، منها منح تراخيص صناعية داخل الأحياء السكنية دون احترام الأثر البيئي، وسط غياب واضح للتنسيق بين السلطات المحلية والجماعات الترابية. ما يؤدي إلى أضرار صحية واجتماعية حقيقية، ويجعل الساكنة رهينة لأنشطة ملوثة، لا تجد آذاناً صاغية في دهاليز القرار المحلي.
ما تكشفه المؤسسة، وإن كان مؤشراً على فاعلية آلية الوساطة، إلا أنه يُبرز في العمق أزمة مزمنة في الحكامة، وفجوة صارخة بين الخطاب والممارسة. والمفارقة أن التقرير نفسه يقف سنوياً عند نفس الأعطاب، دون أن تجد توصياته طريقها إلى التنفيذ الفعلي، في ظل غياب آليات للزجر أو المتابعة أو المحاسبة.
إن الدولة، بكل مكوناتها، أمام امتحان حقيقي لإعادة الاعتبار لثنائية المرفق العام وثقة المواطن، وذلك لن يتحقق إلا بمواجهة جادة للبنية الإدارية المتكلسة، عبر التحول من منطق الوعود إلى منطق الفعل، ومن سياسات النوايا إلى سياسات النتائج.






