مجتمع

مليشيات إلكترونية لضرب الاعلام المهني ونقل التفاهات عبر صفحات “الفايسبوك”

أوجدت وسائل التواصل الاجتماعي مساحات واسعة أمام الجميع، لإبداء آرائهم في القضايا العامة، دينية أم سياسية أم فكرية أم اجتماعية، أو غير ذلك. هذا يعني أن سلطة احتكار المنبر واحتكار المعلومة واحتكار الفهم ولّت إلى غير رجعة، وهذا إيجابي.

ولكن، وكما في حال كل شيء تقريبا، لكل ظاهرة وجهان، مشرق ومظلم، وهذا هو واقع وسائل التواصل الاجتماعي، اللهم إن وجهها المظلم قد يكون الغالب. من ذلك أن هذه الوسائل وفّرت منبراً مشتركاً يستوي فيه العالم والجاهل، المفكّر والضحل، والخبير والدّعيّ، بل إن الجاهل والدعيَّ يملكان أدوات قوة حقيقية في هذا الفضاء لا يملكها أصحاب الرأي والعمق والدراية.

وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى مسألة واحدة، ربما يعاني منها أغلب من يقدّمون طروحات قيّمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يجدون أنفسهم عرضةً لهجماتٍ شرسةٍ لا تراعي أدبا، دع عنك المنطق والفهم. وبالتالي، تجد هؤلاء من أصحاب العمق والمفيد يُعرِضون، في أحيان كثيرة، عن طرح أفكار يرون أهميتها، ومحاذير يودّون التنبيه إليها، مبنيةٍ على معلومات، ومنطلقةٍ من غيرة صادقة، ومن وعي كامل، وذلك إيثارا للسلامة أمام “مليشيات إلكترونية” لا ترعى حرمةً، ولا تعفّ عن لفظ، ولا تتورّع عن اتهام. ولا فرق هنا بين “ذباب إلكتروني” تنشره أحزاب علمانية أو إسلامية، وليبراليين أم يساريين. لا تهم هنا الهويات الإيديولوجية، فكلهم في منطق الإساءة واحد، وإن تعدّدت المنطلقات،و يتم استخدام المرتزقة بسلاح “الفايسبوك” دون حسيب و لا رقيب.

أمام هذه الحالة الكئيبة التي وصل إليها الفكر ووصلت إليها المعلومة والمعرفة، برز مهرّجون يسيحون في كل وادٍ يُنَظِّرون، لهم متابعون على مواقع فيسبوك وتويتر ويوتيوب بعشرات ،وظهرت صحافة “الفايسبوك” تدعم من طرف الادارات و ذلك لإعدام الاعلام المهني.

“كثيرون منا بدأوا يُخْضِعُون القيم والمبادئ والأفكار والمعلومة والتحليل لأهواء العوام”الآلاف، بل مئات الآلاف، يشيعون بينهم الجهل والضحالة والخزعبلات والأكاذيب. الكارثة أن كثرة متابعيهم تحولت إلى تجارة، كما على يوتيوب، وكلما ضوعفت جرعات البلاهة والسفاهة وحجم الشتائم و التراشق “و الكلاش” تضاعف المتابعون، وبالتالي تضاعف المدخول الشهري، كما تضاعف منسوب الجهل في صفوفنا. الأدهى أن جماعات كثيرة دخلت على خط تمويل ذلك الانحطاط في سياق معارك سياسية تخوضها .

مع أن الأمر ليس محصورا فينا.. انتهينا ضحايا، حتى لمّا تمنينا يوما أنه كسر لاحتكار منابر التعبير. لقد أضحى كثير من مصدر معلومات العوام مسموما، والمصيبة أن الكل يشرب، ويدل غيره عليه على أساس أنه النبع الأصيل النقي!

نقف اليوم أمام وحش كبير نسمّنه نحن بأنفسنا، ويكاد يبتلعنا. كثيرون منا بدأوا يُخْضِعُون القيم والمبادئ والأفكار والمعلومة والتحليل لأهواء العوام وتحيزات محيطنا. بغير ذلك، فإنك تستدعي وجع الرأس والشتائم والإهانات وانفضاض الجمهور عنك.

أمام ذلك كله، انتهى مستوى نقاشاتنا، حتى ضمن محيط كل واحد فينا وانتماءاته وتحيّزاته الفكرية، نقاشاً مُسِفَّاً، ينحو إلى مهاجمة الأشخاص، بدل تلاقح الأفكار أو تطارحها. لقد انتهينا في دوامةٍ، الكل فيها غريق، ليس فيها ناجون جرّاء الجدل الصاخب الذي وقوده جهلة، وَرَبابينُهُ تجار مواقف، من جماعة “ما يطلبه المستمعون”. والحقيقة التي ينبغي أن نقرّ بها هنا أن كثيرا من جدلنا الصاخب، ومحاولات تشويه صورة بعض الشخصيات المعروفة بعمق الطرح ووضوح المشروع واغتيالها معنويا، لا يأتي من جهلة ودهماء فحسب، بل إن مصدره، أحيانا، حسد وبغضاء و إسترزاق و إبتزاز، أو تعصّب أعمى لشخص أو لحزب أو لفكرة من دون قبول نقاش موضوعي حول تلك المسائل.

“أضحى كثير من مصدر معلومات العوام مسموما”الأشخاص والأحزاب والأفكار بغضاً من دون منطق، كثير من قراءاتنا ما يكتب ويطرح قائمة على تحيز مسبق ومتشنّج، خصوصا إن كنا لا نحب صاحب الفكرة محل النقاش. مثلا باختصار، هذا زمن المهرّجين وأصحاب البضاعة المُزجاة. إننا نخسر أفكاراً قيّمة، يمكن أن تساهم في مشروع نهضتنا، نتيجة متوالية البؤس هاته التي نعيشها. وبالتالي، تنتعش الضحالة والمزاودات الرخيصة التي لا تكلف صاحبها عناء ولا جهدا، ولكنها تكلف مشاريعنا ومستقبلنا نحن، جَمَعِيّاً، أثمانا باهظة. استقلال الفكر والتفكير هو درب الكبار، والخضوع لجعجعة الدهماء وابتزازها هو درب الصغار، ولكن، ومع كل أسف، إننا اليوم نعقر خيولنا ونسرج على ظهور البغال، ولذلك فإنه زمن الصغار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى