سياسة

مجلس جهة فاس مكناس بين فراغ جدول الأعمال وتبذير المال العام: من يجرؤ على افتحاص وكالة تنفيذ المشاريع؟

تتجه الأنظار نحو مجلس جهة فاس مكناس الذي يستعد لعقد دورته العادية يوم الغد الإثنين، في ظل عاصفة من التساؤلات الشعبية والمهنية حول طريقة تسيير المال العام، وإنجازات وكالة تنفيذ المشاريع (AREP)، وعدالة التوزيع المجالي للموارد. إن ما يصفه الرأي العام بـ “جدول أعمال خاوٍ على عروشه” يأتي في سياق يطبعُه “حراك الشباب” والاحتجاجات الصاخبة، مما يعمق الشعور بالفجوة بين أولويات المنتخبين والهموم الحارقة للمواطنين. التحليل العميق للمعطيات يكشف عن ضرورة مُلحة لتفعيل مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في هذه المؤسسة المنتخبة.

أولاً: الأرقام المُعلنة لوكالة تنفيذ المشاريع… بين الإنجاز الكمي وعجز الجودة الرقابية

تُشير المعطيات إلى أن وكالة تنفيذ المشاريع، التي يُشرف عليها رئيس مجلس الجهة، قد أنجزت 126 مشروعاً (حسب المعطيات المقدمة) بقيمة إجمالية تقارب 819,43 مليون درهم خلال الفترة 2021-2024، مع نسبة إنجاز تجاوزت 89%. وتندرج هذه المشاريع، في مجملها، ضمن برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، الذي رُصدت له ميزانية إجمالية تفوق 2.7 مليار درهم للفترة 2016-2024، موزعة على الطرق، والكهربة، والماء الصالح للشرب، وقطاعي الصحة والتعليم (حيث شملت حوالي 351 مشروعاً).

نقاط التساؤل والتعميق:

  • مؤشر الجودة الفعلي: المطالبة بإنزال المفتشية العامة لوزارة الداخلية وقضاة المجلس الأعلى للحسابات لافتحاص هذه المشاريع لا تستهدف الأرقام المعلنة، بل تركز على الجودة الحقيقية للمنجز. كيف يمكن تبرير أن “عدة مشاريع تفتقد إلى أي مراقبة وتعرّضت للتخريب في سنواتها الأولى”؟ أو أن “مشاريع لم تكتمل”؟ هذا يضع مبدأ الرقابة الإجرائية والمادية للمجلس على الوكالة موضع شك كبير، لا سيما في صفقات النقل المدرسي التي تمثل شريان حياة لفك العزلة عن الساكنة القروية.
  • حكامة الوكالة: الوكالة التي تدير هذه الملايير، تخضع لإشراف رئيس الجهة. إن الحديث عن إعادة هيكلة الوكالة وتعزيز نظام الرقابة الداخلية (كما أشارت بعض التقارير السابقة) يؤكد أن هناك اعترافاً ضمنياً بوجود هشاشة في آليات الحكامة والنجاعة داخل هذه الأداة التنفيذية للجهة. فالمحاسبة لا تقتصر على صرف المال، بل على الأثر المستدام للمشاريع.

ثانياً: شحّ جدول الأعمال في زمن “ثورة” المطالب الشبابية

تأتي الدورة العادية لمجلس الجهة وجدول أعمالها يُوصف بـ “الخاوي” في وقت حرج يتميز بـ “احتجاجات الشباب المغربي من جيل زيد” في عدة مدن بسبب الاحتقان والبطالة. هذا التناقض الصارخ يُظهر غياباً لـ الإحساس بضرورة الاستعجال التنموي (Sentiment d’urgence).

جوانب الضعف في الأجندة:

  • تفتيت المال العام مقابل المشاريع المهيكلة: يُعتقد أن جدول الأعمال يركز على “تفتيت المال العام” عبر المصادقة على ملحقات واتفاقيات جزئية. بدلاً من ذلك، كان على المجلس، الذي يتوفر على ميزانية سنوية ضخمة، أن يترافع بقوة حول إطلاق مشاريع كبرى مهيكلة تساهم مباشرة في:
    • الصحة والتعليم: استغلال الميزانية لدعم البنيات التحتية لهذين القطاعين لمواجهة أزمة الخدمات العمومية.
    • خلق مناصب الشغل: إنشاء شركات تنمية جهوية (SDR) فاعلة وتوجيه الدعم المالي الضخم نحو المقاولات المحلية بدلاً من “شركات أجنبية تستفيد من الدعم ولكنها لا تساهم في وقف نزيف البطالة”، وما يرافق ذلك من شبهات المحسوبية والزبونية. فشركاء مثل تكنوبارك فاس (الذي تم إنجاز شطره الثاني سنة 2020) والمشاريع الصناعية الكبرى (كمشاريع المنطقة اللوجستيكية وقطب علوم الصحة التي تناهز 1.2 مليار درهم) كان يجب أن تكون محور تقييم ومتابعة صارمة للأثر التشغيلي والاجتماعي.
  • غياب التقييم الاستراتيجي: الدستور والقوانين التنظيمية تُلزم المجالس بتقديم الحساب عن تدبيرها للأموال العمومية والخضوع للمراقبة والتقييم. إن الغياب الواضح لنقاط تقييم شاملة ومحاسبة عميقة في جدول الأعمال يرسخ الانطباع بأن المجلس يفضل “الاستمرارية” على “المراجعة الذاتية”.

ثالثاً: تحكم إداري وغياب الحكامة المجالية: إقصاء “الجهات المنسية”

تعد قضية التوزيع غير العادل للمشاريع الشاهد الأبرز على غياب الحكامة المجالية في جهة فاس مكناس.

  • التهميش الممنهج لإقليم تازة : يلاحظ الرأي العام أن “إقليم تازة وغيره لا يستفيدون من مشاريع الجهة”، وأن “جماعات قروية مازالت تحن تحت وطأة التهميش”. هذا الإقصاء الممنهج (L’exclusion systématique) يؤكد أن المقاربة التنموية للمجلس ليست متوازنة وتساهم في تعميق ظاهرة “المغرب بسرعتين” التي أشار إليها جلالة الملك. المشاريع المبرمجة لـ تقليص الفوارق المجالية يجب أن تنعكس بوضوح في أقاليم مثل تازة وبولمان ومناطق الهشاشة.
  • المعارض المجالية والسفريات : فتح تحقيق في المعارض المجالية التي ينظمها المجلس يعتبر مطلباً لضمان الشفافية. هذه المعارض، التي تُقدّم على أنها واجهة لدعم التعاونيات والجمعيات ذات الدخل المحدود، يجب أن تُفحص لمعرفة من “استفاد منها” وكيف تم “تدبير الملايير” المخصصة لها، لقطع الطريق أمام أي شبهة لـ “اقتصاد الريع”. كما أن تزايد سفريات نائبة الرئيس للمشاركة في لقاءات دولية، رغم أنها “ليست مسؤولة على العلاقات الخارجية”، يثير تساؤلات حول استغلال النفوذ وترشيد النفقات، ويُضعف مصداقية المكتب المسير ككل أمام الساكنة التي تطالب بالاقتداء بنهج التقشف.

رابعاً: نداء الشفافية والمساءلة: المال العام ملك للدولة والشعب

في الختام، لا يمكن النظر إلى هذه المطالب بالافتحاص إلا كـ تنزيل عملي لـ “توجيهات الملك محمد السادس بربط المسؤولية بالمحاسبة”. فالمؤسسة المنتخبة هي مؤسسة عمومية تدير مالاً عاماً، وليست “ضيعة ملكاً للخواص لا يمكن نقاشه وطرحه”،وهنا لا يوجه اي إتهام لي جهة حول تورطها في أي خرق قانوني و لكن واجب نزول المفتشية المركزية لوزارة الداخلية للتحقيق في كيفية إشتغال وكالة تنفيذ المشاريع و مدى المراقبة و مدى الإلتزام بدفتر التحملات لان صفقات ضخمة تم تنزيلها فإنه من واجب المراقبة و التحقيق لرفع اي لبس قائم  و هي صفقات متعددة  و خاصة صفقة شراء سيارات النقل المدرسي و التي قال عنها نائب لرئيس المجلس انه يجب فتح تحقيق لرفع اللبس عن أي إتهامات مجانية و باطلة.

  • الواجب الدستوري: الدستور المغربي واضح في التأكيد على أن المرافق العمومية تخضع لمعايير الجودة، والشفافية، والمحاسبة، والمسؤولية، وتلزمها بتقديم الحساب عن تدبيرها للأموال العمومية (الفصل 154 وما يليه). إن المطالبة بـ إيفاد اللجان المركزية لوزارة الداخلية ولقضاة المجلس الأعلى للحسابات هي حق دستوري للرأي العام لضمان النزاهة والشفافية في استخدام الملايين.
  • الخيار الاستراتيجي: على رئيس الجهة ومكتبه أن يقدموا حصيلة واضحة وشفافة للرأي العام الوطني وأن يترافعوا عن المشاريع التي يتم إقصاء مدن وجماعات قروية منها، لمواجهة الهشاشة والعزلة. إن غياب الحكامة الرشيدة والمقاربة التشاركية في تدبير الصفقات والمشاريع، في ظل هذا الاحتقان الشبابي، يهدد استقرار الجهة ويُعرّض مصالح الساكنة للإهمال.

لقد آن الأوان للتحول من منطق الإنجاز الكمي على الورق إلى منطق الأثر التنموي الكيفي على الأرض، فـ المال العام ليس حقاً مكتسباً لأي طرف كما كان منصبه، بل أمانة ثقيلة يجب حفظها وحسن تدبيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى