مقال تحليلي:المشهد السياسي المغربي.. بين حروب الظل وصناديق الاقتراع: إلى أين؟”الحمامة” تحلق فوق العواصف والبيجيدي يصرخ من الهامش

مقال تحليلي من إعداد: عبدالله مشواحي الريفي
على أبواب الدخول السياسي الجديد، وفي الوقت الذي يفترض فيه أن تنشغل الأحزاب بصياغة رؤى وبرامج استعداداً لانتخابات 2026، نعيش في المغرب على وقع مشهد سياسي مشوه، حيث انتقلت بعض القوى من العمل الميداني إلى التسكع في الأزقة الافتراضية، مطلقة العنان لحروب إلكترونية قذرة، هدفها ضرب الخصوم وتشويه الجميع، بدل خوض معارك الأفكار والبرامج.
البيجيدي… حزب يعيش في “الوهم الافتراضي”
منذ هزيمته المدوية في 2021، لم يستفق حزب العدالة والتنمية من الصدمة. عشر سنوات عجاف من الحكم كانت كفيلة بكشف خوائه التدبيري، من ارتفاع البطالة، إلى تراجع القدرة الشرائية،الى تفكيك صندوق المقاصة،و ضرب عمق الوظيفة العمومية،و إغراق المناصب ب”البيجديين”، وصولاً إلى التنازلات السياسية التي أفرغت شعاراته من مضمونها. واليوم، بدل مراجعة الذات، اختار “البيجيديون” العودة إلى لعبتهم المفضلة: الاستثمار في الأزمات الخارجية، وركوب موجة التضامن مع غزة، في محاولة يائسة لاستعادة وهج شعبي انتهى مع آخر ولاية بنكيران.
لكن الأدهى أن الحزب انتقل إلى أسلوب “التشويش الممنهج”، مستعملاً كتائب إلكترونية تتخفى خلف حسابات وهمية، تصرخ وتهاجم وتفبرك، لكنها في الواقع لا تملك ما تقدمه للمغاربة سوى الضجيج. هذه الكتائب، ومعها جيش من المؤثرين والمؤثرات المأجورين، تحاول صناعة “أزمة سياسية” من فراغ، عبر اتهام رئيس الحكومة عزيز أخنوش بإقصائه من رئاسة لقاءات انتخابية، أو باستمالة الإعلام، أو حتى بتضخيم صور من عطلته الصيفية في سردينيا الإيطالية.
الحرب الافتراضية… صناعة في غرف مغلقة وبتمويلات مشبوهة
ما يجري على مواقع التواصل ليس عفوياً ولا مجرد “رد فعل شعبي”، بل هو صناعة منظمة تدار بعناية في غرف مغلقة. مصادر متابعة لهذه الحرب الرقمية تؤكد أن هناك تنسيقاً محكماً بين بقايا خلايا حزب العدالة والتنمية وبعض الوجوه السياسية التي فشلت في الميدان، إلى جانب مقاولين صغار في مجال الإشهار الإلكتروني، يتحركون وفق أجندات مدروسة.
التمويل يأتي أحياناً من جيوب حزبية، وأحياناً عبر وسطاء يقدمون أنفسهم كـ”نشطاء مستقلين”،فحتى لوبي الضغط يزاول هوايته و يسخر امكانيته المادية، بينما في الواقع هم مجرد واجهة لتحويل الأموال نحو مؤثرين ومؤثرات يتقنون فن الإثارة وافتعال القصص، مقابل مبالغ مقطوعة أو مكافآت على “عدد المشاهدات”.
في كواليس هذه الحملات، تُرسم السيناريوهات قبل أشهر، وتُجهز الصور والمقاطع والفبركات، ثم يُطلق العنان لحسابات فيسبوك وهمية وجيوش من “البروفايلات” المزيفة، لتضخ نفس الرسالة في توقيت واحد، بهدف خلق إحساس عام بوجود “غضب شعبي”. والهدف النهائي ليس إقناع الناس، بل التشويش على القيادة السياسية وإرباك صورتها قبل أي محطة انتخابية أو تفاوضية.
لكن هذه “الحرب الإلكترونية” تواجه مأزقاً وجودياً: جمهورها لا يذهب إلى صناديق الاقتراع، ومعظم من يتجاوب معها يكتفي بالتعليق أو المشاركة الافتراضية، بينما تبقى الكتلة الناخبة الحقيقية عصية على الاستمالة إلا عبر العمل الميداني المباشر، وهو ما يتفوق فيه التجمع الوطني للأحرار حتى الآن.
التجمع الوطني للأحرار… من الميدان لا من الفيسبوك
في مقابل هذا الصخب الافتراضي، يمضي حزب التجمع الوطني للأحرار في طريقه بثبات، واضعاً رهانه على الميدان لا على اللايكات والتغريدات. فالحزب، بقيادة أخنوش، يواصل جولاته الجهوية ضمن برنامج “مسار الإنجازات”، معتمداً على قاعدة انتخابية حقيقية تم بناؤها عبر سنوات من العمل التنظيمي، والاحتكاك المباشر بالمواطنين، واستثمار حصيلة حكومية تحمل بصمته في قطاعات حيوية.
التجربة أثبتت أن الحملات الافتراضية مهما كانت شرسة، لا تُترجم إلى أصوات في الصناديق. فالمؤثرون الذين يتلقون مقابلاً لنشر الإشاعات، نادراً ما يكلفون أنفسهم عناء الذهاب إلى مكاتب التصويت. بينما الخزان الانتخابي الفعلي اليوم يوجد عند “الحمامة”، وهو ما أكدته الانتخابات الجزئية الأخيرة في عدة مدن، حيث اكتسح الحزب النتائج، مسجلاً أرقاماً مضاعفة مقارنة بأقرب منافسيه، حتى في الدوائر ذات الكتلة الانتخابية المحدودة.
الأحزاب الأخرى… بين التراجع والبحث عن موطئ قدم
على الضفة الأخرى، يعيش حزب الأصالة والمعاصرة على وقع هزات داخلية بفعل التسريبات والضربات التي استهدفت قياداته، من رئيسة الحزب فاطمة الزهراء المنصوري إلى وزير العدل عبد اللطيف وهبي، ما جعله يتراجع خطوة إلى الوراء في هذا السباق المبكر. أما حزب الاستقلال فيحاول الحفاظ على توازنه في معركة سياسية مليئة بالألغام.
وفي المقابل، يسجل حزب الحركة الشعبية صعوداً ملحوظاً، بفضل إعادة هيكلة داخلية ورهان على قيادات شابة، فيما يبدو الاتحاد الاشتراكي في حالة انكماش سياسي، عاجزاً عن استعادة أمجاده التاريخية.
السياسة تُحسم في الشارع والصناديق… لا في غرف الواتساب
ما ينساه خصوم الأحرار، وخصوصاً البيجيديين، هو أن السياسة في المغرب تُحسم بالأقدام التي تمشي إلى صناديق الاقتراع، لا بالأصابع التي تكتب على الكيبورد. الحرب الافتراضية قد تصنع ضجيجاً إعلامياً لبضعة أيام، لكنها لا تغير الخريطة الانتخابية ما لم تتحول إلى قوة تصويتية حقيقية.
وإذا استمر التجمع الوطني للأحرار على نفس الإيقاع الميداني، مستثمراً قاعدة ناخبيه وبرنامجه الحكومي، فالأرجح أن محطة 2026 ستعيد رسم المشهد السياسي مع “الحمامة” في الصدارة، فيما سيبقى البيجيدي وأذرعه الإلكترونية يصرخون من الهامش، يتفرجون على قطار الانتخابات وهو يمر أمامهم دون أن يستطيعوا ركوبه.
صعود الحمامة… الخزان الانتخابي يحسم
في المقابل، يواصل حزب التجمع الوطني للأحرار توسيع نفوذه على الأرض، معتمداً على سياسة القرب، وفتح قنوات مباشرة مع المواطنين في المدن والقرى، وإطلاق مبادرات اجتماعية وتنموية ميدانية. الخزان الانتخابي للحزب أصبح اليوم الورقة الرابحة في أي استحقاق.
الأرقام تتحدث بوضوح: لو جرت الانتخابات غداً، فإن “الحمامة” ستحقق اكتساحاً غير مسبوق، وخير دليل على ذلك ما وقع في الانتخابات الجزئية بعدة مدن، حيث حصل مرشحو الحزب في إحدى الدوائر على 200 صوت، بينما اكتفى أقرب منافس بـ 10 أصوات فقط، في كتلة انتخابية محلية يصل عدد المصوتين فيها إلى 250 شخصاً، دون احتساب الأصوات الملغاة أو الممتنعين عن التصويت. هذه النتائج تعكس قوة التعبئة، وثقة الشارع في الحزب، مقارنة بالوهن الذي أصاب منافسيه.
إلى أين؟
المغرب مقبل على مرحلة سياسية جديدة، ملامحها تتشكل تدريجياً:
-
انحسار دور الأحزاب التي بنت مجدها على الشعارات الشعبوية.
-
انكشاف ألاعيب “المؤثرين” وتحولهم إلى عبء على من يمولهم.
-
استمرار صعود الأحرار كلاعب سياسي واجتماعي أساسي، مستفيدين من قاعدة انتخابية حقيقية، وبرامج قريبة من الواقع.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن ميزان القوى في المغرب يتجه نحو استقرار سياسي تقوده الأحزاب التي تشتغل على الأرض لا على “الهاشتاغات”، وهو ما يجعل سؤال “إلى أين؟” يحمل جواباً واحداً: نحو مشهد سياسي جديد، تترسخ فيه قوة الفعل الميداني على حساب الفراغ الخطابي.






